مسائل معاصره في فقه القضاء

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مسائل معاصره في فقه القضاء/ محمدسعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : [قم]: دارالهلال ، 1427ق. = 2006م. = 1385.

مشخصات ظاهري : 267ص.

فروست : (بحوث فقهيه ؛ 2).

شابك : 9648276463

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري

يادداشت : عربي.

يادداشت : چاپ دوم.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : قضاوت (فقه)

موضوع : مسائل مستحدثه

رده بندي كنگره : BP195/1/ط2م5 1385

رده بندي ديويي : 297/375

شماره كتابشناسي ملي : 1169589

مقدمة الطبعة الأولي

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*

نظرا لأهمية مباحث (القضاء) في الفقه الإسلامي و بسبب ارتباطه بتطور المجتمع المدني و تعقيداته، فمن الطبيعي أن تستجد- بين فترة و أخري- فروع قضائية جديدة تبعا لتطور الوضع الاجتماعي و مستجدات العلاقات الدولية، خاصة في عصرنا الحاضر، حيث النهضة الإسلامية و الاهتمام العالمي المتنامي بدراسة الفقه الإسلامي، و بالذات وفق منهج أهل البيت عليهم السّلام.

و قد تصدت بعض المؤسسات المتخصصة بجمع مستجدات المسائل القضائية و تفريعاتها، سواء ما يرتبط منها بأبناء المجتمع الإسلامي، أم العلاقات الدولية و موقف الحكومة الإسلامية، و طرحتها علي سماحة المرجع الديني الكبير السيد الحكيم (مدّ ظله) حيث تفضل سماحته بالإجابة عليها، مع الإشارة إلي ما اعتمده من الأدلة العلمية.

و نظرا لأهمية هذا النتاج الفقهي و ندرة من تعرض لهذه الفروع الفقهية ارتأي مكتب سماحته (مدّ ظله) نشر ذلك ليكون إضافة قيمة للمكتبة الفقهية الإسلامية و خدمة للعلم و العلماء.

و اللّه الموفق للرشاد.

الناشر

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 7

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ، و الصلاة و السلام علي سيدنا و نبينا محمد و آله الطيبين الطاهرين، و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

س 1 بالنسبة إلي بلوغ المرأة، يرجي التفضل بالإجابة عن ما يلي: *

أ.. ما هو سن التكليف الشرعي؟

ج: تبلغ المرأة و يتم تكليفها بإكمالها تسع سنين قمرية، علي المشهور بين الأصحاب، بل لم يعرف الخلاف فيه إلا من الشيخ في صوم المبسوط و ابن حمزة في خمس الوسيلة فاعتبرا بالعشر. لكنهما رجعا عنه إلي المشهور في كتاب الحجر من المبسوط و النكاح من الوسيلة. و لعله لذا نفي عنه الخلاف بعضهم، كابن ادريس.

و يقتضيه النصوص الكثيرة، ففي معتبر حمران: «سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت له: متي يجب علي الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة، و يقام

______________________________

(1)*

ارتبطت هذه المسألة بفقه القضاء لاختلاف أحكام البالغين عن غيرهم في القضاء الإسلامي.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 8

عليه و يؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم و أدرك. قلت: فلذلك حدّ يعرف به؟ فقال: إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر أو أنبت، قبل ذلك، أقيمت عليه الحدود التامة، و أخذ بها و أخذت له.

قلت: فالجارية متي تجب عليها الحدود التامة و تؤخذ بها و يؤخذ لها؟ قال: إن الجارية ليست مثل الغلام، إن الجارية إذا تزوجت و دخل بها و لها تسع سنين ذهب عنها اليتم، و دفع إليها مالها، و جاز أمرها في الشراء و البيع، و أقيمت عليها الحدود التامة، و أخذ لها و بها» «1».

و في صحيح يزيد الكناسي- بناء علي ما هو الظاهر من أنه يزيد أبو خالد القماط- عنه عليه السّلام: «قال: الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم، و زوجت و أقيمت عليها الحدود التامة لها و عليها» «2».

و في صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

حدّ بلوغ المرأة تسع سنين» «3» … إلي غير ذلك من النصوص الظاهرة أو الصريحة في التحديد المذكور.

أما القول بالعشر فقد ذكر في كتاب الحجر من المبسوط أن به رواية.

قال في الجواهر: «و لم أجد به رواية مسندة». و قد يستدل له بنصوص لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعف دلالتها.

و هناك بعض النصوص لم يعرف القول بمضمونها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 45 من أبواب

مقدمات النكاح و آدابه حديث: 10.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 9

منها: موثق الحسن بن راشد عن العسكري عليه السّلام: «قال: إذا بلغ الغلام ثمان سنين فجائز أمره في ماله، و قد وجب عليه الفرائض و الحدود، و إذا تمّ للجارية سبع سنين فكذلك» «1». و لا مجال للخروج به عما سبق بعد شذوذه، و عدم ظهور عامل به. و لا بدّ من ردّ علمه إليهم صلوات اللّه عليهم.

و منها: موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الغلام متي تجب عليه الصلاة؟ قال: إذا أتي عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، و جري عليه القلم. و الجارية مثل ذلك، إن أتي لها ثلاث عشرة سنة، أو حاضت قبل ذلك، فقد وجبت عليها الصلاة، و جري عليها القلم» «2».

و ربما يدعي أن مقتضي الجمع بينه و بين النصوص المتقدمة حمل النصوص المتقدمة علي استحباب قيام البنت بالفرائض بإكمالها تسع سنين، نظير ما ورد من أمرها و أمر الصبي بالإتيان بالفرائض لدون سنّ البلوغ.

و قد يؤيد ذلك بموثق عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام: «قال: إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة، و كتبت عليه السيئة، و عوقب، و إذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، و ذلك أنها تحيض لتسع سنين» «3»، فإن مقتضي الجمع بين صدره المتضمن بلوغ الغلام بثلاث عشرة سنة و نصوص بلوغه بخمس عشرة سنة حمل حكم الغلام فيه علي الاستحباب،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 15 من أبواب الموقوف و الصدقات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب:

44 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 12.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 10

و هو يناسب حمل ذيله المتضمن لبلوغ الجارية بتسع سنين علي ذلك أيضا، تحكيما لقرينة السياق.

لكن لا مجال لتأييد الحمل المذكور بموثق ابن سنان، لأن حمل حكم الغلام فيه علي الاستحباب، ثم تحكيم قرينة السياق لحمل حكم الجارية فيه علي الاستحباب أيضا، ملزم بحمل موثق عمار في حكم الجارية علي الاستحباب أيضا، و حينئذ لا ينهض بتحديد بلوغها بثلاث عشرة سنة، بل يكون بلوغها بأكثر من ذلك، و هو لا يناسب شيئا من النصوص.

و حمل حكم الغلام فيه علي البلوغ الحقيقي، ليطابق بصدره موثق عمار ملزم بحمل حكم الجارية فيه علي ذلك أيضا، فينا في بذيله موثق عمار، و لا يصلح شاهدا، و لا مؤيدا له حينئذ.

مع أن حمل نصوص بلوغ الجارية بتسع سنين علي الاستحباب لا يناسب التصريح فيها بذهاب اليتم، و إقامة الحدود التامة، إذ لا معني لاستحباب إقامة الحدود التامة علي الصبية التي لا يجري عليها القلم. فهي صريحة بسبب ذلك في كون التسع سنين حدّا حقيقيا للبلوغ.

و من ثم يكون موثق عمار شاذا لمخالفته للنصوص الكثيرة الواردة في تحديد بلوغ الغلام، و في تحديد بلوغ الجارية، و المطبقة علي اختلافهما في الحدّ، و لا سيما مع عدم ظهور عامل به، فيوكل علمه إلي أهله عليهم السّلام.

علي أن اشتهار الحكم بين الأصحاب و إن لم يكن في نفسه حجة، إلا أنه قد يوجب الاطمئنان، بل العلم بالواقع، كما في مثل المقام من ما كان الحكم فيه عمليا، لا تنفك الناس عن كثرة الابتلاء به في جميع العصور بما

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 11

في ذلك عصور المعصومين صلوات اللّه عليهم

الطويلة. حيث لا يمكن مع ذلك خفاء حكمهم عليهم السّلام فيه علي شيعتهم.

فاشتهار هذا التحديد بين شيعتهم شاهد بأخذهم له منهم عليهم السّلام.

و لا سيما مع عدم خلوّ التحديد المذكور عن غرابة، لأن ارتكاز ضعف المرأة لا يناسب كون بلوغها أسبق من بلوغ الرجل، لو لا كون الحكم المذكور تعبديا مأخوذا من أدلة قاطعة من المعصومين عليهم السّلام بخع لها شيعتهم، و تعبدوا بها خاضعين.

ب.. هل يمكن التفصيل في البلوغ بين العبادات، و العقود و الإيقاعات؟

ج: لا مجال لذلك مع إطلاق بعض النصوص، و التصريح في كثير منها بجواز أمرها في مالها.

ج.. و ما هو الحكم بالنسبة إلي إجراء الحدود و القصاص؟

ج: تجري عليها. لإطلاق بعض النصوص، و التصريح في كثير منها بجريان الحدود التامة لها و عليها.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 12

س 2

اشارة

حيث كان العرف القانوني في بلادنا و كثير من دول العالم يقتضي اعتبار سنّ الرشد بين المتعاقدين للذكور و الإناث إكمال ثمانية عشر عاما شمسية. كما أن الأطفال هم ذوو الأعمار فوق الست سنوات إلي حين إكمال السن المتقدم، و هم يلزم محاكمتهم بمحاكم الأطفال. بالنظر إلي ما سبق، يرجي التفضل بالإجابة عن ما يلي:

1.. هل يمكن للحاكم الشرعي في المحاكم القضائية أن يخفف من عقوبة البالغين بحسب السن الشرعي إذا كانوا غير بالغين بحسب السنّ القانوني؟

ج: لا مجال لذلك، بعد إطلاق أدلة العقوبات الشرعية، بل التصريح في أدلة البلوغ بإقامة الحدود التامة به، كما تقدم بعضها في جواب السؤال الأول. و المفروض في الحاكم الشرعي أن يجري في البلوغ علي التحديد الشرعي، دون العرف القانوني المخالف له.

2- و إذا كان الجواب سلبيا

اشارة

فبالنظر إلي أن أكثر دول العالم تجعل لمثل هؤلاء المجرمين نظاما جزائيا خاصا يبتني علي أسس وقائية و تربوية و قد صار ذلك عرفا قانونيا دوليا، فيرجي

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 13

الإجابة عن ما يلي:

أ- هل يمكن للحاكم الشرعي نظرا إلي عناوين ثانوية- كدفع تشويه صورة الإسلام و النظام الإسلامي

، و التخلص من استغلال المنظمات الدولية و أعداء الإسلام و النظام الإسلامي- و عملا بالمعاهدات الدولية بصورة إجمالية التخفيف من عقوبة من سبق ذكرهم؟

ج: لا مجال للتخفيف بعد إطلاق الأدلة و تشديد الشارع الأقدس في أمر الحدود و الحقوق.

بل في الاستسلام للعرف المذكور و الجري عليه اعتراف بالهزيمة.

و لأن تكون الهزيمة أمام الأنظمة الكافرة الفاسدة صريحة، بإعلان العجز عن تطبيق الحكم الشرعي، خير من أن تكون مبطنة و تحريفية بإعطاء التخفيف طابعا شرعيا، لأن ذلك يتضمن اعترافا بفشل التشريع الإسلامي في علاج المشكلة، و خطئه في ذلك، كما يستلزم تشويها للنظام الإسلامي، و أنه لا يمثل الإسلام بواقعه الحقيقي، بل بعد تحويره و تحريفه.

و يأتي في جواب السؤال الثالث و الرابع و الثالث عشر و الثامن و الثلاثين و الستين ما ينفع في المقام.

و من الغريب وصف النظام الجزائي المذكور في السؤال بأنه: يبتني علي أسس وقائية و تربوية. و هل جنت البشرية من هذه الأنظمة غير الفساد

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 14

و التحلل و الدمار في خلقها و مثلها و سلوكها؟!.

فغرائز الإنسان الجنسية و غيرها، و طموحاته في السيطرة و التمرد و فرض الشخصية، تبدأ في الظهور بصورة فاعلة في سن المراهقة، و تشتد صاعدة للأوج قبل الثامنة عشرة، و هو بعد لم تستحكم في نفسه الأخلاق الفاضلة و المثل الرادعة، فإذا لم يستشعر المسؤولية، و أمن من العقوبة، فما الذي يحجزه عن ارتكاب الجرائم الأخلاقية

و العدوانية و الجموح في طريقها، و إذا تعودها في هذه المدة، و ألفها و استحكمت في سلوكه و ممارساته، لم يسهل عليه بعد ذلك تجنبها و السير في طريق الرشد و الصلاح و التحلي بالخلق الفاضل و الكمال. و لم يقو خوف العقوبة علي تقويمه و تهذيبه.

و كلما شاع ذلك و ظهرت الجريمة و الفساد في الناس تضاءلت القوة الرادعة، و ضعفت الدعوة للإصلاح، و فرضت الجريمة علي المجتمع، بحيث لا بد من التعايش معها علي أنها الأمر الواقع، و نسيت الأخلاق و المثل، كما حصل في المجتمعات المعاصرة.

و إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ.

ب.. هل يمكن التفريق بين الولد و البنت في ذلك؟

ج: لا يمكن ذلك بعد إطلاق الأدلة، بل صراحتها، في جريان الحدود التامة علي الولد و البنت بتحقق الحدّ الشرعي لبلوغهما. و قد تقدم بعضها في جواب السؤال الأول.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 15

ج.. هل يمكن التفريق بين الحدّ و القصاص في ذلك؟

ج: لا يمكن ذلك بعد إطلاق الأدلة أو صراحتها.

س 3 هل يمكن للدولة الإسلامية- نظرا لمصالح مهمة- أن تجعل صحة وقوع العقود و الإيقاعات- كالزواج و الطلاق- منوطا بمراحل معينة؟

ج: لا مجال لذلك، إلا بناء علي أن المتولي للأمر أولي بالمؤمنين من أنفسهم، بحيث له حجرهم عن سلطنتهم علي أنفسهم في مثل ذلك.

و هو أمر غير ثابت، بل ثابت العدم، كما أفضنا الكلام فيه في المسألة الرابعة و العشرين من مباحث الاجتهاد و التقليد من مصباح المنهاج «1».

علي أن النّبيّ صلي الله عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السّلام الذين ثبتت لهم هذه الولاية لم يعهد منهم إعمالها بهذا النحو، حيث يناسب ذلك عدم إعمال الوليّ لها بالنحو المذكور حتي لو تمت ولايته.

كما ينبغي الحذر من أن تكون الدوافع الخفية انهزامية، بسبب ضغط الوضع المعاصر في الاتجاه المعاكس للتشريع الإسلامي.

و لا سيما مع حثّ الشارع الأقدس علي الزواج، و خصوصا المبكر منه، و علي التسهيل فيه، و علي أنه سبب للرزق، و أن من ترك الزواج مخافة الفقر فقد أساء الظن باللّه تعالي، و مع تأكيده علي أن الطلاق بيد من أخذ

______________________________

(1) مصباح المنهاج، الاجتهاد و التقليد ص: 199.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 16

بالساق، و غير ذلك.

حيث يكون وضع القيود في ذلك مجافيا لنصّ التشريع الإسلامي و لروحه المميزة له، و موجبا لتشويه النظام الإسلامي، بانحرافه عن الإسلام بواقعه و روحه، مع أن المفروض فيه الحفاظ علي الإسلام، و تشييد أركانه، و إظهار معالمه المميزة له عن بقية الأنظمة الفاسدة، التي تعاني منها البشرية و من ويلاتها، في سلوكها، و مثلها، و أخلاقياتها، و غير ذلك من شئون حياتها.

س 4- في الحالات التي يقتل بها رجل امرأة، يرجي الإجابة عن ما يلي..

أ- إذا اختار أولياء الدم القصاص و إعطاء نصف الدية، فهل اختيار نوع الدية المعطاة إلي أولياء الدم أو للجاني؟

ج: اختيار نوع الدية لأولياء الدم، لأنهم المكلفون بدفعها علي تقدير القصاص، و مقتضي إطلاق خطابهم بها الاجتزاء بأيّ فرد منها يختارونه.

و لأجل ذلك قلنا بأن اختيار نوع الدية مع الخطأ للقاتل

و من يقوم مقامه- كوليّه- أو للعاقلة.

ب.. إذا لم يتمكن أولياء الدم من إعطاء نصف الدية، و طلبوا من الأجهزة القضائية، أداءه عنهم، فهل يمكن إعطاؤه من بيت المال؟

ج: لما كان هذا من النفقات الخاصة، فليس هو من مصارف بيت المال.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 17

نعم الحقّ الشرعي- كالزكاة و الخمس- يشرع دفعه للشخص مع الفقر. إلا أن هذا المصرف ليس من موارد الحاجة التي يتوقف عليها الفقر الذي هو موضوع الحقّ.

و من ثم يتوقف قيام بيت المال بذلك علي أحد أمرين:

الأول: أن يكونوا فقراء في أنفسهم بحيث يستحقون الحق الشرعي مع قطع النظر عن هذا المصرف، فيدفع لهم الحق من بيت المال، فإذا ملكوه دفعوا فاضل الدية منه. أو أن يقترضوا علي ذممهم و يدفعوا فاضل الدية و يقتصوا، ثم يعجزوا عن وفاء الدين، بحيث يصدق عليهم من أجل ذلك الحاجة و الفقر، فيدفع لهم الحق من بيت المال.

الثاني: أن يكون في اقتصاصهم مصلحة عامة يدركها وليّ بيت المال تسوّغ الدفع منه. و هو عنوان ثانوي خاص غير منضبط الموارد. يوكل لأمانة ولي بيت المال، و حسن نظره.

و لا بد في ذلك من الحذر..

أولا: من التباس الأمر باندفاع عاطفي نتيجة مكاسب مادية أو سياسية ضيقة أو نحوها.

و ثانيا: من انعكاس صورة مشوهة تنافي نزاهة ولي بيت المال و حياديته المفروضة.

و ثالثا: من أن تكون الدوافع الخفية انهزامية، منبعثة عن ضغط النظريات و الأوضاع المعاصرة في الاتجاه المعاكس للتشريع الإسلامي في

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 18

التفريق بين الرجل و المرأة … إلي غير ذلك من ما قد تكون أضراره المبدئية أو المادية علي الأمد البعيد أو القريب أشدّ و أكثر.

ج.. في الموارد التي لا تسمح الظروف السياسية و الاجتماعية بترك القصاص

، فهل يمكن إعطاء نصف الدية من بيت المال مع عجز أولياء الدم من القيام بذلك؟

ج: يظهر الجواب عنه من جواب السؤال في الفقرة السابقة.

س 5 إذا قتل رجل امرأة في الأشهر الحرم علما بأن القتل في الأشهر الحرم موجب لإضافة ثلث الدية

فإذا اختار أولياء الدم القصاص من القاتل فهل يعطون نصف دية رجل قتل في الشهر الحرام أو نصف دية رجل قتل في غيره؟

ج: عليهم أن يعطوا نصف الدية الطبيعية، و هي دية القتل في غير الأشهر الحرم، لأن ذلك هو المستفاد من أدلة ردّ فاضل الدية إطلاقا أو تصريحا. و زيادة الثلث من أجل الأشهر الحرم إنما هي لتعظيم حرمة المقتول فيها، المقتضي لتعظيم الجناية عليه، لا بنحو تقتضي زيادة حرمة القاتل مع قتله بحقّ فيها أو في غيرها.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 19

س 6 بالنظر إلي أن الدية في المرأة إذا وصلت إلي الثلث عادت إلي النصف، يرجي الإجابة عما إذا كان الأرش أكثر من الثلث، هل يقلل إلي النصف؟ مثلا إذا كان كل الدية خمسة ملايين تومان و كان الأرش مليوني تومان؟

ج: نعم يرجع للنصف، لأن الأرش دية لم يصل تقديرها عن طريق الشرع، و يرجع للحكمين من أجل تحديدها، فهي لا تخرج عن حكم الدية.

علي أن الأدلة لم تتضمن عنوان الدية، ليحتاج لتعميمها للأرش، بل هي تعمه ابتداء، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال في حديث:

«جراحات الرجال و النساء سواء، سن المرأة بسن الرجل، و موضحة المرأة بموضحة الرجل، و إصبع المرأة بإصبع الرجل، حتي تبلغ الجراحة ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية ضعّفت دية الرجل علي دية المرأة» «1».

و في صحيح أبان بن تغلب عنه عليه السّلام: «قال: هذا حكم رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم. إن المرأة تعاقل الرجل إلي ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلي النصف» «2». و العقل مأخوذ من عقل الناقة عند دفعها بدل الجناية. و نحو هما غير هما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب قصاص الطرف حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 44 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 20

س 7 إذا قتل رجل امرأتين أو أكثر و أراد أولياؤهن القصاص، فيرجي الإجابة عن ما يأتي:

أ.. هل يجب علي الأولياء في هذه الحالة أن يدفعوا شيئا بعنوان فاضل الدية؟

ج: من القريب عدم وجوب الردّ، كما يظهر من الشيخ في النهاية.

لأن الردّ إنما هو لاحترام نصف رقبته، و عدم استحقاقه بالقصاص، فمع اشتراك الوليين في القصاص و القتل، أو إيكال أحدهما أمره للآخر، يستحق كل منهما نصف الرقبة و قد استوفي حقه فلا موجب للردّ. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال بعد عدم النصّ في البين.

ب.. إن وجب ردّ فاضل الدية، فهل يجب أن يدفع كل منهم مستقلا و علي حدة نصف دية الرجل،

أو أن نصف الدية يقسم علي الأولياء بالنسبة؟ مثلا إذا قتل شخص امرأتين و أراد أولياؤهما القصاص، فهل يجب علي كل منهما أن يدفع نصف دية الرجل، أو يكتفي بدفع كل منهما ربعها؟

ج: بعد فرض وجوب الردّ فكل منهم مكلف برد نصف الدية.

و الاكتفاء بنصف واحد من الكل يبتني علي تداخل الجنايات، و هو يقتضي عدم الردّ أصلا.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 21

س 8 بالنسبة إلي حدّ السرقة، يرجي الإجابة عن هذه الأسئلة..

أ.. بعد إجراء حدّ السرقة، هل يكون العضو المقطوع ملكا للحكومة التي أجرت الحدّ، أو هو ملك للشخص الذي أجري عليه الحدّ؟

ج: لا إشكال في عدم ملكية الحكومة له، لعدم المنشأ لذلك و مجرد إجرائها الحدّ و توليها لذلك لا يقتضيه. و الذي تقتضيه القاعدة ثبوت حق صاحبه فيه، لأنه جزء منه تابع له، نظير الشعر الذي يحلقه و الأظافر التي يقلمها. و مجرد استحقاق قطعه منه لا يوجب سقوط حقه فيه.

ب.. ما هو حكم الخيارات التالية بعد إجراء الحدّ:

دفن العضو المقطوع، إعادة العضو المقطوع إلي الشخص المحدود بواسطة عملية جراحية، بيع العضو المقطوع لشخص آخر مقطوع اليد من أجل الاستفادة به؟

ج: المتيقن من هذه الخيارات هو الدفن، إذ لا أقل من جوازه بمقتضي الأصل، بل السيرة.

و في وجوبه إشكال، لأن عمدة الدليل علي وجوب دفن العضو المقطوع الإجماع، و المتيقن منه المقطوع من ميت.

علي أنه- لو تمّ- منصرف عما إذا أمكن إبقاء حياة العضو و الانتفاع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 22

به. و من ثم لا ينبغي التوقف في سلطنة المحدود علي تمكين الغير منه، لينتفع به ببيع أو نحوه لو تيسر ذلك.

و أما إعادته له نفسه بعملية جراحية فلا يخلو من إشكال، لقضاء المناسبة الارتكازية بأن حدّ القطع لم يجعل لمجرد الإيلام الذي قد يكون في غيره من وجوه التعذيب ما هو أشدّ فيه، بل لم يثبت وجوب الإيلام، و لذا يجوز استعمال المخدر، كما يأتي في جواب السؤال الرابع و الثلاثين.

و إنما جعل حدّ القطع للتنكيل بسمة ثابتة من أجل أن تستمر رادعيته للجاني و غيره ممن يراه.

بل يظهر من مجموع نصوص القطع المفروغية عن فرض بقاء العاهة الحاصلة بالقطع، و لذا اقتصر علي قطع بعض الأعضاء إذا تكررت السرقة رفقا بالمحدود، و ذلك لا يناسب تمكين المحدود من الانتفاع بالعضو و إرجاعه له بعملية جراحية.

و يؤيده المنع منه في

القصاص، ففي موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «أن رجلا قطع من بعض أذن رجل شيئا، فرفع ذلك إلي علي عليه السّلام فأقاده، فأخذ الآخر ما قطع من أذنه فردّه علي أذنه بدمه، فالتحمت و برئت، و عاد الآخر إلي علي عليه السّلام فاستقاده، فأمر بها فقطعت ثانية، و أمر بها فدفنت، و قال: إنما يكون القصاص من أجل الشين» «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 23 من أبواب قصاص الطرف حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 23

س 9 بالنسبة إلي قصاص الأطراف، يرجي الإجابة عن ما يلي..

أ.. بعد إجراء القصاص في الطرف فمن هو الذي يملك العضو المقطوع: الحكومة، أو المجني عليه، أو الجاني؟

ج: من ما سبق في جواب السؤال الثامن يظهر أن العضو المقطوع من حقّ الجاني الذي يقتص منه، لأنه جزء منه، و الجناية إنما تقتضي قطع العضو، دون خروج حقه منه.

بل هو هنا أولي من ما سبق هناك، لابتناء القصاص علي التعادل بين الجناية و العقاب، و من الظاهر أن الجناية إنما اقتضت قطع عضو المجني عليه من دون أن تخرجه عن حقه، فكذلك العقاب بالقصاص.

ب.. دفن العضو المقطوع، إعادته للمجرم، بيع العضو من أجل الاستفادة منه من شخص محتاج إليه، أي الخيارات المتقدمة يلزم القيام به؟

ج: مما سبق في جواب السؤال الثامن يتضح جواز دفن العضو المقطوع، مع سلطنة المقتص منه علي تمكين الغير من الانتفاع به. و أن المقتص منه لا يمكّن من إعادته لنفسه بعملية جراحية، لموثق إسحاق بن عمار المتقدم.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 24

س 10 بالنسبة إلي اعتبار علم القاضي..

أ.. هل يلحق علم القاضي بالإقرار، أو بالبينة، أو هو طريق ثالث؟

ج: لا إشكال في أنه طريق ثالث، بناء علي جواز التعويل عليه في القضاء. لكن المبني المذكور لا يخلو عن إشكال، لعدم خلوّ الأدلة التي استدلوا بها عليه عن ضعف. فإن المذكور في كلامهم وجوه..

الأول: الإجماع المدعي في الانتصار و الخلاف و الغنية و محكي نهج الحق، و قد يظهر من السرائر.

و فيه: أن المسألة ليست شايعة الابتلاء في عصور المعصومين عليهم السّلام، ليتسني معرفة رأيهم و رأي أصحابهم فيها، و إنما حررت بعد عصر الغيبة، و من القريب اعتماد مدعي الإجماع علي النصوص الآتية، بعد أن استوضحوا دلالتها عليه، و اعتقدوا من تسالم الطائفة عليها و علي روايتها تسالمهم علي ما فهموه منها.

الثاني: ما تضمن من الآيات و غيرها الأمر بالحكم بالعدل و القسط و الحقّ.

و فيه: أن الأوامر المذكورة واردة للردع عن الحكم بغير الحقّ، فهي في مقام بيان شرط الحكم المشروع و قصره علي ذلك، و لا إطلاق لها يقتضي الأمر بالحكم بالحقّ و نفوذه.

كيف؟! و لا ريب في عدم نفوذ الحكم من من ليس أهلا له، كما لا

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 25

ينفذ الحكم الصادر قبل الترافع، و في عدم المخالفة الواقعية بترك الحكم بالواقع مع عدم قيام الحجة عليه، من دون أن يقتضي ذلك تخصيصا لإطلاق الأوامر المذكورة.

و بعبارة أخري: الأوامر المذكورة واردة لبيان شرط الحكم بعد الفراغ عن مشروعيته، و لا إطلاق لها في

مشروعيته، نظير قولنا: صل مستقبلا أو علي طهارة، حيث لا إطلاق له في مشروعية كل صلاة تكون عن استقبال أو عن طهارة.

الثالث: ما رواه الصدوق- بسنده الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام و بسند آخر عن ابن عباس- من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام للنبي صلي اللّه عليه و آله و سلم في خصومته مع الأعرابي في ثمن الناقة، معللا بأنه كيف يصدق النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم عن اللّه تعالي و لا يصدق في ثمن ناقة «1»؟!.

و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي جعفر عليه السّلام في قضية درع طلحة، المتضمن لحكم شريح فيها، و تخطئة أمير المؤمنين عليه السّلام له في حكمه، ثم قوله عليه السّلام: «ويلك- أو ويحك- إن إمام المسلمين يؤمن من أمور هم علي ما هو أعظم من هذا» «2».

و صحيح عثمان بن عيسي و حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الوارد في قصة فدك، و المتضمن إنكار أمير المؤمنين عليه السّلام علي أبي بكر مطالبته لسيدة النساء عليها السّلام ببينة علي صدق دعواها في فدك، و تصديق البينة لو شهدت

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 18 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 14 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 6.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 26

عليها بما يوجب الحدّ، بعد دخولها في آية التطهير «1».

و فيه: أن النصوص المذكورة إنما تدل علي عدم شرعية القضاء علي خلاف العلم في مورد لا تشرع فيه الدعوي و لا تصدق فيه البينة، لمخالفتهما للدليل القطعي الملزم للمدعي و الشاهد بكذبهما، و لا إطلاق لها

يقتضي نفوذ القضاء علي طبق العلم الشخصي للحاكم غير الملزم للآخرين.

و بعبارة أخري: إنما يحتاج للقضاء في مورد اشتباه الحال، و لا موضوع له مع وضوح بطلان الدعوي و كذب الشهادة، لمخالفتهما للدليل القطعي، كما في الموارد المذكورة، و نحوها من موارد ثبوت بطلان الدعوي بدليل قاهر لا يقبل الشك، كما في قضية المرأة التي تعلقت بالأنصاري و ادعت أنه نال منها و وقع من مائه علي ثيابها، فأظهر أمير المؤمنين عليه السّلام كذبها بأن ألقي علي ذلك البلل ماء حارّا فاشتوي و ظهر أنه بياض بيض، دون ماء الرجل «2». و غير ذلك مما ورد في قضاياه عليه السّلام.

و ذلك لا يستلزم جواز حكم القاضي بعلمه الشخصي الذي هو حجة عليه من دون أن يكون ملزما للآخرين.

الرابع: أنه لو لم يجز حكم الحاكم بعلمه لزم إما فسقه، أو إيقاف الحكم، و هما معا باطلان، و ذلك لأنه إذا حكم بخلاف ما يعلم كان حاكما بالباطل فيفسق، و إذا توقف عن الحكم لزم إيقاف الحكم لا لموجب. بل يلزم تركه إنكار المنكر و إظهار الحق مع إمكانه، و هو محرم.

______________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم ج: 2 ص: 156.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 21 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 27

و فيه: أنه إن استفيد من الأدلة موضوعية قيام الحجج التي يرتكز عليها القضاء- كالبينة و اليمين و اليد- و إن لم تكن حجة علي الحاكم كان الحكم علي طبقها حقا لازما غير موجب للفسق و إن كان مخالفا للواقع.

و إن لم يتم ذلك تعين التوقف عن الحكم. و كفي بذلك موجبا له.

و لا محذور في عدم

إظهار الحق، إذا كان الخارج عنه متسترا بذلك، بل يجب ستره عليه حينئذ، و يحرم فضحه، فضلا عن عقوبته بعد عدم تمامية شروطها الشرعية. و لذا قد لا تجوز الشهادة عليه إذا لم يتم النصاب، و قد يحدّ الشهود حدّ الفرية. غاية الأمر أن ينكر المنكر عليه سرّا حينئذ.

الخامس: ما تضمن الخطاب بالحكم عند تحقق موضوعه، كالخطاب بالحدود و القصاص عند تحقق أسبابها، في قوله تعالي: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «1».

و قوله سبحانه: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا «2».

و قوله عز و جل: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ «3» و غيرها. فمع علم الحاكم بتحقق الموضوع يتعين عليه ترتيب الحكم، و العمل عليه.

و فيه: أنه حيث لا ريب في عدم السلطنة علي ترتيب تلك الأحكام إلا لخصوص بعض الناس، و في خصوص بعض الحالات، و البناء علي

______________________________

(1) سورة النور الآية: 2.

(2) سورة المائدة الآية: 38.

(3) سورة البقرة الآية: 178.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 28

عدم الإطلاق للخطابات المذكورة و عدم نظرها لمقام العمل، و أنها واردة لسببية هذه الأسباب في الجملة، أو لبيان مجرد كونها مقتضيات من دون أن تكون عللا تامة، أولي من البناء علي إطلاقها، ثم تخصيصها، لاستلزامه كثرة موارد التخصيص، بنحو قد يكون مستهجنا.

و لا سيما مع اختلاف أحكام بعض هذه الموضوعات باختلاف طرق الإثبات، مثل ما أشير إليه في السؤال الآتي من لزوم الحدّ مع البينة و جواز العفو مع الإقرار.

و ما في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن رجل محصن فجر بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال و امرأتان، قال: [فقال: إذا شهد عليه ثلاثة رجال

و امرأتان. يب] وجب عليه الرجم، و إن شهد عليه رجلان و أربع نسوة فلا تجوز شهادتهم، و لا يرجم، و لكن يضرب حدّ الزاني» «1». و غيرهما.

فإن اختلاف الحكم باختلاف الطريق شاهد بعدم تمامية موضوع الحكم قبل قيام الطريق.

علي أنه لو فرض تمامية الإطلاق في الخطابات المذكورة أو غيرها، فالمتعين الخروج عنه بأمرين:

الأول: ما تضمن حصر القضاء بطرق خاصة، كصحيح هشام ابن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم إنما أقضي بينكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 30 من أبواب حدّ الزني حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 29

بالبينات و الأيمان، و بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار» «1». لظهوره في انحصار الحكم بين الناس بالبينات و الأيمان، و تعرضه للخطأ.

و حمله علي الغالب، أو علي صورة عدم العلم- كما في الجواهر- بلا شاهد.

و لا سيما مع ما ورد في جملة من النصوص من أن الحجة عجل اللّه فرجه إذا ظهر حكم بحكم آل داود لا يسأل البينة «2»، لظهوره في تبديل معيار الحكم في عهده عليه السّلام، لا في انحصاره ببعض الوجوه المشروعة من أول الأمر.

الثاني: أن بعض الطرق المجعولة شرعا غالبا ما يحصل العلم قبل تماميتها. كما في الإقرار بالزني، حيث لا يجب به الحدّ إلا بتكرره أربع مرات، مع حصول العلم عادة بالإقرار من دون خوف و لا إكراه مرة أو مرتين، فاعتبار تكرره زائدا علي ذلك، كالصريح في عدم التعويل علي العلم.

و حمل ذلك علي ما إذا لم يحصل العلم قبل تمامية العدد بعيد

جدا، و لا مجال لحمل النصوص عليه.

و كذا الحال في البينة، حيث كثيرا ما يحصل العلم من الشهادة قبل تمامية العدد المطلوب، لخصوصية في الشاهد- من حيثية التورع و التثبت و غير هما- و ظروف الشهادة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 2 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 4، 5، و الكافي ج: 1 ص: 397.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 30

بل كيف يمكن البناء علي جواز إقامة الحدّ للحاكم قبل تمامية العدد إذا قطع بحصول السبب بمقتضي اجتهاده مع أن الشاهد المدعي للمشاهدة الحسية إذا لم يتم العدد يحدّ حدّ المفتري؟!.

علي أن التأمل في بعض موارد قضاء أمير المؤمنين عليه السّلام يقضي بقناعته عليه السّلام بثبوت السبب أو بعدمه، إلا أنه لا يرتب الأثر علي ذلك، و لا يقضي به، إلا بعد أن يتكلف و يتعمّل لإثبات بطلان الدعوي أو الشهادة بطريق قاهر قاطع، نظير ما سبق في الوجه الثالث، أو لحمل الطرف المعني علي الإقرار.

ففي معتبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام في قصة الرجل الذي خرج مع نفر، فلما رجعوا ادعوا أنه مات و لم يترك شيئا، و أن أمير المؤمنين عليه السّلام نظر في وجوههم و قال: «ما ذا تقولون؟ تقولون: إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتي، إني إذا لجاهل» «1»، و رواه الصدوق بطريقه الصحيح عنه عليه السّلام.

و في خبر عاصم بن ضمرة السلولي في قضية المرأة التي انتفت من ابنها، و شهد لها شهود: «فقال علي عليه السّلام: لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه علمنيها

حبيبي رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم … » «2».

و ربما يستفاد ذلك من غير هما.

و لم ينقل عنه عليه السّلام، بل و لا عن النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم، أنهما قضيا بالعلم من دون ذلك، فضلا عن غيرهما من المنصوبين للقضاء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 20 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 21 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 31

و أما دعوي: أن امتناعهما صلوات اللّه عليهما و آلهما من ذلك حذرا من التهمة، و لسدّ الطريق علي الغير للتلاعب و التسرع في القضاء.

فهي و إن كانت قريبة جدا، إلا أن ذلك يقتضي عدم تشريع القضاء بالعلم لغيرهما، لأنه أولي بالتهمة، و بالتسرع و التلاعب بالقضاء بعد عدم العصمة.

و لعل ذلك هو السرّ في عدم تشريع القضاء بالعلم إلا في عصر ظهور الحجة عليه السّلام، حيث ينحصر القضاء بالمعصوم بعد ظهور أمره و إقرار الناس بعصمته و بخوعهم لطاعته و القبول منه و التسليم له.

و قد يشهد بهذا ما في معتبر الحسين بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: سمعته يقول: الواجب علي الإمام إذا نظر إلي رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ، و لا يحتاج إلي بينة مع نظره، لأنه أمين اللّه في خلقه، و إذا نظر إلي رجل يسرق أن يزبره و ينهاه، و يمضي و يدعه. قلت:

و كيف ذلك؟ قال: لأن الحقّ إذا كان للّه فالواجب علي الإمام إقامته، و إذا كان للناس فهو للناس» «1».

فإن تعليل عدم الحاجة للبينة مع نظر الإمام بأنه

أمين اللّه في خلقه ظاهر في اختصاص ذلك بالإمام و عدم التعدي لغيره، لعدم كونه أمينا للّه، و إن كان من حقه القضاء، لأنه منصوب من قبل الإمام لذلك.

نعم مقتضاه، جواز قضاء الإمام بعلمه. و لا بأس بالالتزام بذلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 32 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 32

بحسب أصل التشريع، و إن لم يظهر منهم عليهم السّلام العمل علي ذلك إلا بعد تكلف إثبات بطلان الدعوي أو الشهادة بطريق قاطع، أو حمل الطرف المعني علي الإقرار، لما سبق من الوجه، أو غيره من ما يكون من سنخ العنوان الثانوي، المانع من العمل علي مقتضي الحكم الأولي.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم مشروعية القضاء لغير المعصوم بعلمه بعد التأمل في ما ذكرناه، و في المحاذير العظيمة المترتبة علي ذلك من اضطراب أمر القضاء و فتح باب الفساد، لعدم الضابط للقناعات الشخصية، و لا لادعائها.

و أما للمعصوم فمن القريب وجود المانع من ذلك، كما سبق. و إن كان الأمر غير مهمّ بعد عدم الأثر العملي لذلك في عصورنا، بل حتي في عصره، لأنه أعلم بحكمه. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ب.. إذا كان طريقا ثالثا، كيف يكون حكم العفو معه؟

ج: حيث سبق عدم التعويل علي علم الحاكم فلا موضوع للسؤال إلا علي سبيل الفرض، و حيث سبق أنه طريق ثالث فهو غير مشمول لدليل التفصيل، بل اللازم الرجوع فيه لعموم وجوب إقامة الحدّ المفروض شموله للمورد.

نعم، في موثق طلحة بن زيد عن جعفر: «قال حدثني بعض أهلي أن شابّا أتي أمير المؤمنين عليه السّلام فأقرّ عنده بالسرقة، فقال علي عليه السّلام: إني أراك

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 33

شابّا لا بأس بهبتك،

فهل تقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت يدك لسورة البقرة. قال: و إنما منعه أن يقطعه لأنه لم يقم عليه بينة» «1».

و قد يظهر منه أن لزوم الحدّ منوط بالبينة، فمع عدم قيامها لا يجب الحدّ و إن علم بحصول سببه.

لكن مقتضي الجمود علي لسان الموثق كون عدم قيام البينة مانعا من الحدّ، و إن الحدّ لا يشرع معه، لا أنه لا يلزم مع جواز إقامته، و حيث لا يمكن البناء علي ذلك فمن القريب اضطراب الحديث، و لو بسبب النقل بالمعني. و لا مجال لحمله علي ما ذكر من دون قرينة. و لا سيما مع قضاء المناسبات الارتكازية بإناطة جواز العفو بالإقرار، لمناسبته للإرفاق بالمقرّ.

مضافا إلي قرب وحدة الواقعة التي تضمنها الموثق مع ما تضمنه الصحيح المروي في الفقيه، المتضمن لقضايا أمير المؤمنين عليه السّلام: «جاء رجل إلي أمير المؤمنين عليه السّلام فأقرّ بالسرقة. فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: أ تقرأ شيئا من كتاب اللّه عز و جل؟ قال: نعم، سورة البقرة. قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة. فقال الأشعث: أ تعطّل حدّا من حدود اللّه تعالي؟ فقال: و ما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو. و إذا أقرّ الرجل علي نفسه فذاك إلي الإمام، إن شاء عفا، و إن شاء قطع»، و روي في التهذيبين بطريق آخر فيه إرسال «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب حدّ السرقة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 18 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 34

و حيث كان لسان هذا الحديث مخالفا للسان الموثق فلا مجال

للتعويل علي الموثق، لعدم المرجح له.

اللهم إلا أن يقال: إنما يلزم التدافع بين الحديثين لو كان المتكلم المنقول عنه فيهما واحدا في واقعة واحدة، للتدافع بينهما حينئذ في تعيين كلامه من دون مرجح.

أما حيث كان المنقول عنه متعددا- فهو في الصحيح أمير المؤمنين عليه السّلام، و في الموثق الإمام الصادق عليه السّلام- فلا تدافع بين الحديثين، لإمكان صدق كل منهما، و يكون العمل علي الموثق، لكونه من سنخ البيان الشارح للصحيح، لأن الصحيح إنما تضمن التفصيل بين الإقرار و البينة من دون تحديد لما يناط به جواز العفو، و أنه الإقرار أو عدم قيام البينة، و الموثق- علي تقدير تمامية دلالته علي المدعي- من سنخ المبين لذلك، حيث تضمن إناطة وجوب إقامة الحدّ بالبينة من دون أن يعارضه الصحيح في ذلك.

فالعمدة في قصور الموثق عن إثبات المدعي ما سبق.

نعم، ذكر الأصحاب رضي اللّه عنهم أنه لو تاب قبل قيام البينة سقط عنه الحدّ. و في الجواهر: «بلا خلاف أجده، بل في كشف اللثام الاتفاق عليه».

و يقتضيه قوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

و صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: السارق إذا

______________________________

(1) سورة المائدة الآية: 34.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 35

جاء من قبل نفسه تائبا إلي اللّه عز و جل تردّ سرقته إلي صاحبها، و لا قطع عليه» «1».

و هما ظاهران في أن المسقط للحدّ توبة فاعل السبب قبل أخذه من دون خصوصية للبينة، فتنفع في صورة علم الحاكم التي هي محل الكلام إذا سبقت منه التوبة قبل أخذه. لكن ذلك يقتضي سقوط الحدّ، لا جواز العفو مع ثبوته، بحيث

يكون للحاكم إقامة الحدّ، كما هو محل الكلام.

بقي في المقام أمور..

الأول: أن جماعة من الأصحاب قيدوا جواز العفو مع الإقرار بتوبة الفاعل. و لم يتضح الوجه في ذلك بعد إطلاق النص المتقدم، حيث قد يري الإمام الصلاح في العفو من دون ظهور توبة، و لو للاستصلاح.

الثاني: أن ما دل علي جواز العفو مع الإقرار مختص بحدّ السرقة.

و لم يرد في غيره إلا مرسل تحف العقول عن الإمام أبي الحسن الهادي عليه السّلام في جواب أسئلة يحيي بن أكثم، و فيها: «أخبرني عن رجل أقرّ باللواط علي نفسه، أ يحدّ أم يدرأ عنه الحدّ؟»، حيث قال عليه السّلام: «و أما الرجل الذي اعترف باللواط فإنه لم تقم عليه بينة، و إنما تطوّع بالإقرار من نفسه، و إذا كان للإمام الذي من اللّه أن يعاقب عن اللّه كان له أن يمنّ عن اللّه، أما سمعت قول اللّه: هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 18 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 4، و تحف العقول ص: 360 طبع النجف الأشرف.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 36

إلا أن ضعفه بالإرسال، و عدم ظهور تعويل الأصحاب عليه مانع من الاستدلال به. علي أن إجمال التعليل فيه مانع من التعدي به عن مورده لغيره من الحدود.

نعم، في صحيح مالك بن عطية في حديث طويل تضمن إقرار شخص عند أمير المؤمنين عليه السّلام باللواط، و أنه عليه السّلام خيّره بين عقوباته، فاختار الحرق بالنار، و استعدّ لذلك بصلاة ركعتين، و دعا في تشهده بدعاء بكي فيه و أبكي

أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه، و قام فدخل الحفيرة و النار تتأجج حوله. فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: «قم يا هذا فقد أبكيت ملائكة السماوات و ملائكة الأرض، فإن اللّه قد تاب عليك، فقم، و لا تعاودن شيئا مما فعلت» «1».

لكنه وارد في قضية خاصة تبتني علي علمه عليه السّلام بتوبة اللّه تعالي علي صاحب الحدّ، بحيث لا يحتاج للحدّ، لا علي سلطانه عليه السّلام علي العفو من أجل إقرار صاحب الحدّ و عدم قيام البينة عليه، أو من أجل توبته أو غير ذلك. فلا مجال للاستدلال به أيضا.

و لم يبق إلا نصوص حدّ السرقة، فالتعميم لجميع الحدود موقوف علي فهم عدم الخصوصية له لإلغائها عرفا. و هو لا يخلو عن إشكال.

و لا سيما مع أن بعض نصوص الإقرار بالزني يصعب حمله علي جواز العفو. ففي معتبر ميثم في حديث المرأة التي أقرّت بالزني عند أمير المؤمنين عليه السّلام في المرة الرابعة: «قال: فرفع رأسه إلي السماء، و قال: اللهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 5 من أبواب حدّ اللواط حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 37

إنه قد ثبت لك عليها أربع شهادات، و إنك قد قلت لنبيك فيما أخبرت من دينك: يا محمد من عطّل حدّا من حدودي فقد عاندني، و طلب بذلك مضادّتي. اللهم فإني غير معطل حدودك، و لا طالب مضادتك، و لا مضيع أحكامك، بل مطيع لك، و متبع سنة نبيك صلي اللّه عليه و آله و سلم. قال: فنظر إليه عمرو ابن حريث و كأنما الرمان يفقأ في وجهه» «1».

و في معتبر الأصبغ بن نباتة فيمن أقرّ عند أمير المؤمنين ثلاثا بالزني، قال: «ثم عاد إليه، فقال

الرجل: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني، فقال:

انك لو لم تأتنا لم نطلبك، و لسنا بتاركيك إذ لزمك حكم اللّه … » «2». و ربما يظهر ذلك من غير هما، كما قد يظهر بالتتبع.

و من الغريب مع ذلك ما في الجواهر، حيث قال تعقيبا علي نصوص حدّ السرقة: «و خصوص المورد لا يخصص الوارد. بل لعل عدم العمل به- كما تسمعه- في السرقة لا ينافي العمل به هنا، لعموم الجواب في المقام».

إذ فيه: أن الجواب مختص بالقطع، و لا عموم فيه لغيره من الحدود.

مع أنه لو تمّ العموم فعدم العمل به في مورده مستلزم لإجماله حكما، لامتناع تخصيص المورد، فلا يكون حجة في غير المورد.

نعم، لم يتضح الوجه في ما ذكره من عدم العمل به في مورده، حيث لم يذكر في وجهه في حدّ السرقة إلا ضعف الرواية، و أن مقتضاها جواز العفو و لو مع عدم التوبة، و لا يلتزم بذلك القائل. و يظهر ضعفه مما سبق.

______________________________

(1) الكافي ج: 7 ص: 187.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 31 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 4.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 38

و من ثم يتعين الاقتصار علي مورد النصوص.

و أما سقوط الحدّ بتوبة الفاعل قبل أخذه فما تقدم من أدلته مختص بالمحارب و السارق، فيجري فيه ما سبق.

نعم، في صحيح جميل بن دراج عن رجل عن أحدهما عليهما السّلام: «في رجل سرق أو شرب الخمر أو زني، فلم يعلم ذلك منه و لم يؤخذ حتي تاب و صلح. فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ» «1».

و قد استشكل فيه بعض مشايخنا قدس سرّه بضعف سنده للإرسال. لكن قد

يهون بلحاظ عمل المشهور به، خصوصا مع كون المرسل مثل جميل.

و لعل الأولي الإشكال فيه باختصاصه بصورة ظهور الصلاح بمضيّ مدّة علي التوبة، فلا يشمل ظهور التوبة بالإقرار.

و لا سيما مع عدم مناسبة ذلك لنصوص الإقرار بالزني، لملازمة الإقرار غالبا لسبق التوبة، كما لعله ظاهر.

الثالث: العمدة في نصوص المقام موثق طلحة و الصحيح المتضمن لقضايا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و المتيقن من الأول جواز العفو للإمام، بل هو ظاهر الثاني، كظاهر الاقتصار عليه في كلمات الأصحاب. و التعدي لغيره ممن يقيم الحدّ- كالقاضي المفوض من قبله عموما أو خصوصا- يحتاج إلي دليل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 39

و لا سيما مع مناسبة التعليل المتقدم في مرسل تحف العقول للاختصاص به، فإنه و إن لم يكن حجة، إلا أنه مؤيد لمقتضي الأصل، المعتضد بالاعتبار، حيث يؤمن عليه التأثر بالمؤثرات الخارجية، و لا يكون موردا للتهمة.

لكن قال في الجواهر: «قد يقوي الإلحاق. لظهور الأدلة في التخيير الحكمي الشامل للإمام عليه السّلام و نائبه الذي يقتضي نصبه إياه أن يكون له ماله».

و لا يخلو كلامه من تدافع. إذ مع عموم موضوع التخيير للنائب- لكونه حكميا- لا حاجة إلي التشبث بأن مقتضي نصبه عليه السّلام للنائب أن يكون له ماله، و إنما يحتاج لذلك مع اختصاص موضوع التخيير بالإمام، حيث لا بدّ حينئذ في ثبوته للنائب من عموم النيابة له.

و علي ذلك فلا ينبغي التأمل في أن ظاهر النص و الفتوي اختصاص موضوع التخيير بالإمام، كما اعترف به في صدر كلامه.

و التعميم للنائب يحتاج إلي عموم النيابة. و هو غير ظاهر من أدلتها، كما يظهر

من ما ذكرناه في المسألة الرابعة و العشرين من مباحث التقليد من كتابنا مصباح المنهاج «1».

______________________________

(1) مصباح المنهاج، الاجتهاد و التقليد ص: 199.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 40

س 11 إذا حكم القاضي بالرجم لأجل علمه فهل يلحق علمه بالبينة

، فيعاد الجاني للحفرة لو فرّ منها، أو يلحق بالإقرار، فلا يعاد الجاني للحفرة لو فرّ منها، أو هو طريق مستقل، فكيف يكون الحكم معه؟

ج: سبق منا في جواب السؤال العاشر المنع من حكم القاضي بعلمه، و أنه علي تقدير البناء علي ذلك فهو طريق ثالث.

و علي ذلك فاللازم إعادة المرجوم للحفرة، و إكمال رجمه. عملا بإطلاق أدلة الرجم القاضية برجمه حتي الموت. حيث يتعين الاقتصار في الخروج عنه علي مورد النصوص، و هو الإقرار.

س 12 الزاني المحصن إذا ثبت عليه الزني بالبينة إذا فرّ من الحفرة يعاد إليها لإكمال الرجم

اشارة

، و إذا ثبت عليه الزني بالإقرار لا يعاد للحفرة، و يجتزأ بما أصابه من الرجم. بناء علي ذلك:

أ.. هل يفرق في ذلك بين حالة عدم إصابته بحجر و حالة إصابته به،

علما أنه في الحالتين قد شرع في إقامة الحدّ و الرجم؟

ج: لا بد من إصابته بحجر أو أكثر. و لا يتحقق الشروع في الحدّ إلا بذلك، لأن الحدّ هو الرجم، و الرجم هو الرمي بالحجارة. أما الوضع في

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 41

الحفيرة فهو مقدمة للرجم. كما أن الرمي من دون إصابة محاولة للرجم، و ليس رجما. و لا يتحقق الشروع بإقامة الحدّ إلا بالشروع بالرجم، و ذلك بالرمي بحجر يصيب الجاني.

علي أن نصوص الفرار لم تتضمن الفرار بعد الشروع في إقامة الحدّ و الرجم، و إنما تضمنت الفرار بعد إصابته بالحجارة، كما في قضية ما عز بن مالك «1».

و في موثق الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليه السّلام: «إن كان هو المقرّ علي نفسه ثم هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شي ء من الحجارة لم يرد … » «2».

بل صرح في بعضها بإرجاعه إذا فرّ قبل أن تصيبه الحجارة. ففي صحيح صفوان عن غير واحد عن أبي بصير: «إن كان أصابه ألم الحجارة فلا يردّ، و إن لم يكن أصابه ألم الحجارة ردّ» 3. و نحوه غيره.

ب.. إذا فرّ عند وضعه في الحفيرة و قبل الشروع في الرجم، فهل يشمله الحكم السابق؟

ج: يجب إرجاعه، كما يظهر من ما سبق.

ج.. هل يمكن تبديل الرجم بنوع آخر من أنواع القتل؟

ج: لا يشرع تبديل الرجم بغيره. عملا بالأدلة الملزمة به. ففي صحيح

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 15 من أبواب حدّ الزني حديث: 1، 2.

(2) 2، 3 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 15 من أبواب حدّ الزني حديث: 1، 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 42

أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الرجم حدّ اللّه الأكبر، و الجلد حدّ اللّه الأصغر، فإذا زني الرجل المحصن رجم، و لم يجلد» «1».

و في موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: الحرّ و الحرة إذا زنيا جلد كل واحد منهما مائة جلدة. فأما المحصن و المحصنة فعليهما الرجم» 2. و نحو هما غير هما من النصوص الكثيرة.

د.. إذا كان الجواب بالإيجاب، هل يفرّق بين الأسباب التي يحتمل بقاء المحدود فيها حيا و الأسباب التي لا يحتمل فيها ذلك؟

ج: هذا السؤال لا موضوع له بعد ما سبق. غير أنه لو تمّ موضوعه فالمناسب أن يكون البديل هو السبب الذي من شأنه الإجهاز علي الجاني، إلا أن يفرّ، مع كون الفرار صعبا جدا.

س 13 في الموارد التي تضمنت الأدلة شكلا خاصا في إجراء الحدّ و بآلات خاصة-- كالرجم و القتل بالسيف- يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل للكيفية الخاصة و الآلات المنصوصة موضوعية في الحكم أولا؟

و بعبارة أخري: في الموارد المذكورة هل غرض الشارع الأقدس مجرد

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب حدّ الزني حديث: 1، 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 43

القتل و إزهاق الروح من دون موضوعية للكيفية و الآلات المذكورة في النصوص، أو لا بد من المحافظة علي خصوصية الكيفية و الآلات، لموضوعيتها في الحدّ؟

ج: يختلف ذلك باختلاف الموارد، فقد يستفاد من النصوص عدم خصوصية الآلة، كما في صحيح الحلبي و أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم يقلع عنه الضرب حتي مات، أ يدفع إلي ولي المقتول فيقتله؟ قال: نعم. و [لكن. ئل] لا يترك يعبث به، و لكن يجيز عليه بالسيف» «1»، حيث يقرب كون ذكر السيف فيه لأنه الآلة الشائعة للقتل من دون تعذيب، فلا مانع من استبداله بالآلات الحديثة المماثلة له في عدم التعذيب.

و قد يستفاد منها خصوصية الآلة و الكيفية و موضوعيتهما، كما في الرجم و عقوبات اللواط المتعددة، لصراحة نصوصها في دخل خصوصياتها و موضوعيتها.

ب.. في حالة كون الشكل و الآلة الخاصة لها موضوعية

- كما في حدّ الرجم و عقوبات اللواط المتعددة بالأشكال المنصوصة- ففي بعض الحالات يكون إجراء الحدّ بالوجه المعتبر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 62 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 44

شرعا موجبا لوهن النظام الإسلامي المقدس، و مخالفا لمصلحة الإسلام و المسلمين، حيث يوجب انطباعا سيئا عن الإسلام، و يعكس صورة من العنف فيه، و في النظام الإسلامي، فهل يمكن في هذا الحال القيام بالقتل بشكل آخر غير مثير؟

ج: هذا تحريف للحدّ و تلاعب بالتشريع يتضمن اعترافا مبطنا بخطإ الإسلام في معالجة المشكلة. و إذا كان

لذلك الأثر في تحسين صورة النظام الإسلامي أمام الأعداء، فهو في الوقت نفسه سبب في تشويه حقيقة النظام، و تبشيع صورته أمام الأولياء، و في تنفرهم منه.

علي أن جعل الحدّ بالوجه المنصوص شرعا يبتني علي نظرة الإسلام لبشاعة الجريمة، و اهتمامه بالحدّ منها، و الإنكار عليها بالوجه الرادع.

و النظرة الإسلامية المذكورة تناقض المفاهيم القائمة في جوّ الأوضاع العلمانية المتحللة المعاصرة، و التي وصل بها الأمر للدعوة إلي تشريع القوانين المبيحة للانحراف الجنسي بوجوهه المختلفة و التعايش مع واقع الانحراف و التحلل، بنحو يجعلهما مألوفين في المجتمع.

و نتيجة للتناقض المطلق بين العلمانية و الإسلام، و تهديد الإسلام لمصالح القوي المعاصرة بنحو أوجب شدة معاداتها له، فإنها تستغل التناقض بين النظرتين من أجل الضغط في الاتجاه المعاكس للتشريع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 45

الإسلامي، و محاولة تبشيع صورته.

و التراجع أمام هذه المحاولة في الخطوة الأولي التي أشير إليها في السؤال لا ينهي المشكلة، بل يزيدها تعقيدا، لأنه في الحقيقة انتصار لتلك القوي، يرفع معنوياتها، و يكسبها الثقة بنفسها في مقاومة الإسلام، و إرغامه علي التراجع، فيزيدها تكالبا عليه، و شراسة في مقاومته من أجل الانتصار في الخطوات اللاحقة، للقضاء عليه و علي تشريعه و نظرته للجريمة حتي النهاية.

فاللازم الحذر من التراجع أمام هذه الضغوط مهما كان الثمن حتي ييأس العدوّ من تحقيق مقاصده و أهدافه الخبيثة. و قد تقدم في جواب السؤال الثاني و الثالث و الرابع ما ينفع في المقام، كما يأتي أيضا في جواب السؤال الثامن و الثلاثين، و الستين.

س 14 في الموارد التي يلزم فيها قتل المجرم من دون تعيين نوع السبب، هل يجب اختيار أقل الأنواع ألما علي المحكوم؟

ج: مقتضي إطلاق الخطاب بالقتل هو تخيير من له حقّ القيام به وفق الطرق المتعارفة في عصور التشريع.

و الفرق بين الإطلاق المذكور و سائر الخطابات-

حيث لا نلتزم بتقييدها بالطرق المتعارفة في عصور الخطاب-: أن التخيير هنا ينافي السلطنة في حق المحكوم، كما ينافي ارتكاز عدم ابتناء التشريع علي التشفي و الانتقام و الإيذاء، و لذا ورد النهي عن العبث بالمقتصّ منه و التلذذ في

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 46

كيفية قتله، بل يجهز عليه بالسيف.

ففي صحيح الحلبي و خبر الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قالا: «سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا، فلم يقع عنه الضرب حتي مات، أ يدفع إلي ولي المقتول فيقتله؟ قال: نعم. و [لكن. ئل] لا يترك يعبث به، و لكن يجيز عليه بالسيف» «1»، و نحوه غيره. و لذا لا يظن بأحد البناء علي جواز القتل بمثل التجويع و تمزيق البدن.

و من هنا يلزم الاقتصار علي التخيير بين ما تعارف من الطرق في عصور التشريع- كما ذكرنا- رفقا بالمحكوم، و حفظا لحقه في السلطنة علي نفسه، و عدم الخروج عنه لما هو الأشد.

بل يشكل اختيار الأخف، لو احتمل اهتمام الشارع بالتنكيل بالجاني في كيفية القتل، فمع فرض حمل الإطلاق علي المتعارف في عصور الخطاب لا قرينة علي الاكتفاء بالأخف. و لا ينافي ذلك ما يأتي في جواب السؤال الثالث و الثلاثين من جواز تخدير الجاني، لأن التخدير أمر خارج عن القتل. هذا كله في غير القصاص.

أما في القصاص فمقتضي القاعدة جواز المساواة في طريقة القتل مع القتل الأول الذي يجب لأجله القصاص، و إن كان أشد من الطرق المتعارفة. لإطلاق أدلة القصاص، و خصوص قوله تعالي: فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 62 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1.

(2) سورة البقرة الآية: 194.

مسائل

معاصرة في فقه القضاء، ص: 47

و قوله سبحانه: وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ «1». إلا أنه يجب الخروج عن الإطلاق المذكور بالنصوص السابقة.

نعم، يجوز اختيار الأخف إذا رضي به وليّ الدم المقتص، لأن له التنازل عن حقه، من دون أن تمنع منه النصوص السابقة، لورودها في مقام المنع من الأشدّ.

س 15 إذا حكم علي المجرم بالموت لسبب من الأسباب و أجري عليه الحدّ، و قبل الدفن- في المجمدة أو في الطب العدلي- ظهر فيه بعض علامات الحياة

اشارة

، بحيث يمكن إبقاء حياته و شفاؤه بالمداواة، فيرجي الجواب عن ما يأتي:

أ.. هل يعاد عليه الحدّ؟

ج: لا بد من إكمال الحدّ، و لو بإبقاء المحدود حتي يموت من غيره مداواة، بحيث يستند موته للحدّ، تحقيقا للمطلوب، و هو الحدّ الذي يتحقق به الموت.

ب.. هل يفرق بين الحدّ و القصاص؟

ج: لا يفرق في ذلك. فإذا ضرب الولي المقتص منه ضربة تجهز عليه كان له حبسه حتي تجهز عليه.

______________________________

(1) سورة النحل الآية: 126.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 48

نعم، لو ظن أنه قتله و تركه، فتبين أن به رمقا، و بعد التداوي استقرت حياته، فالأحوط و جوبا سقوط القصاص بذلك. لرواية أبان بن عثمان عن من أخبره عن أحد هما عليهما السّلام: «قال: أتي عمر بن الخطاب برجل قد قتل أخا رجل، فدفعه إليه و أمره بقتله، فضربه الرجل حتي رأي أنه قد قتله. فحمل إلي منزله، فوجدوا به رمقا، فعالجوه فبرئ. فلما خرج أخذه أخو المقتول الأول، فقال: أنت قاتل أخي، ولي أن اقتلك. فقال: قد قتلتني مرة، فانطلق به إلي عمر، فأمر بقتله. فخرج، و هو يقول: و اللّه قتلني مرة. فمروا علي أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره خبره، فقال: لا تعجل حتي أخرج إليك، فدخل علي عمر، فقال: ليس الحكم فيه هكذا. فقال: ما هو يا أبا الحسن؟ فقال: يقتص هذا من أخي المقتول الأول ما صنع به، ثم يقتله بأخيه. فنظر الرجل أنه إن اقتص منه أتي علي نفسه، فعفا عنه و تتاركا» «1».

و قد استشكل في الاستدلال بضعفها، لاشتمال سندها إلي أبان في الكافي علي إرسال، و في التهذيب علي إبراهيم بن عبد اللّه الذي لا نصّ علي توثيقه. و لإرسال أبان لها عن أحد هما عليهما السّلام، كما سبق.

و أما أبان نفسه فلا إشكال في وثاقته بعد عدّ الكشي له من

أصحاب الإجماع، معتضدا برواية البزنطي عنه الذي قيل عنه إنه لا يروي إلا عن ثقة، و بكونه من رجال تفسير القمي و كامل الزيارات. و لا يهمّ مع ذلك الخلاف فيه، و أنه ناووسي وقف علي أبي عبد اللّه عليه السّلام، أو فطحي، أو واقفي، أو أنه رجع إلي الحق. فالعمدة ما سبق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 61 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 49

و قد حاول في الجواهر تصحيح الحديث، لرواية الصدوق له في الفقيه بطريقه الصحيح عن أبان، حيث قال: «و في رواية أبان بن عثمان أن عمر بن الخطاب أتي برجل … ».

لكنه كما تري، فإن رواية الصدوق لم تشتمل علي سند أبان للقضية المذكورة، و لم ينسبها لأحد الإمامين المعاصرين له، و هما الصادق و الكاظم عليهما السّلام فهي مرسلة أيضا. و لعل طريقه إليها هو الطريق المذكور في الكافي و التهذيب المشتمل علي الإرسال.

نعم، يظهر من الكليني و الصدوق التعويل عليها، و هو الظاهر من التهذيب، و صريح النهاية، و كذا من محكي السرائر و الوسيلة في الجملة.

و من ثم يصعب إهمالها. و إن كان التعويل عليها مع ذلك لا يخلو عن إشكال. و لذا ألزمنا بالاحتياط.

هذا و ما تضمنته الرواية من بقاء حقّ القصاص في الجملة لولي المجني عليه الأول، هو الذي تقتضيه القاعدة، لعدم استيفاء حقه بما صدر منه أولا.

نعم، هي مخالفة للقاعدة في توقف القصاص علي الاقتصاص منه بما فعله بالجاني..

أولا: لأنه لم يفعله بنحو العدوان، بل بتخيّل استيفاء حقه به، فهو من سنخ الخطأ، كما لو قتل غير الجاني لتوهم أنه الجاني، أو اقتص من الجاني في الجروح بما

لا يماثل جنايته بتخيل مماثلته له.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 50

و ثانيا: لعدم مشروعية القصاص في مثل الجروح المذكورة من ما لا ينضبط، و قد يؤدي إلي إزهاق النفس، إجماعا، و نصوصا في الجملة. لحرمة تعريض نفس الجاني للخطر بعد عدم أداء جنايته لتلف النفس. و يأتي بعض الكلام في ذلك في جواب الفقرة العاشرة من السؤال الواحد و الخمسين.

و من ثم لا يبعد كون ما تضمنته الرواية- من توقف قتل الولي للجاني علي اقتصاص الجاني منه من ما فعل به- لمجرد التعجيز عن قتل الولي للجاني، و بيان عدم مشروعيته بعد ما فعل بالجاني ما فعل. و إلا فمن البعيد جدا رضاه عليه السّلام بذلك لو أقدم عليه الولي عنادا، أو انتقاما، أو كان المباشر غير الولي، و لا يبالي الولي بتعرضه للموت.

و علي ذلك فالذي تقتضيه القاعدة هو استحقاق الجاني الدية علي الولي لما فعل به. و استحقاق الولي قتله قصاصا عن جنايته بعد عدم استيفاء حقه بما فعله أولا.

لكن في الجواهر أن مقتضي القاعدة- مع قطع النظر عن الرواية- عدم ضمان شي ء من جراحات الجاني، لا قصاصا، و لا دية، قال: «لأنه مهدور الدم بالنسبة إليه، كتابا، و سنة، و إجماعا. نعم تحرم المثلة عندنا، و تجب كيفية خاصة في الاقتصاص منه. و لكن ذلك كله من الأحكام الشرعية التي لا يترتب عليها غير التعزير و الإثم، لا الضمان».

و هو كما تري، فإن هدر دمه إنما هو بمعني جواز قتله قصاصا، لا بمعني سقوط حرمته، بحيث يصير كالكافر الحربي، لا حرمة لجرحه في غير

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 51

القصاص، كما هو المفروض في المقام من عدم ترتب القصاص علي جرحه.

و

أما ما ذكره قدّس سرّه من أن الخروج عن الكيفية الواجبة في القصاص- و هي الإجهاز عليه بالسيف من دون تعذيب له- لا يترتب عليها غير الإثم و التعزير من دون ضمان. فهو- لو تم- إنما يجري في القتل بالكيفية المشتملة علي التعذيب- كضربه بالسوط حتي يموت، أو بجروح خفيفة حتي ينزف و يموت- لا في النيل منه بما لا يميت من الضرب أو الجرح أو الخنق، ثم قتله بالسيف.

حيث لا وجه لسقوط حرمته في ذلك- بحيث لا ضمان فيه- بعد خروجه عن ما يستحق عليه من القتل قصاصا. فلا مخرج عن ما ذكرنا.

نعم، قد يشكل بأن استحقاق القصاص علي الجاني بعد الذي فعل به مستلزم لإيلامه نفسيا بالاستسلام للقتل مرتين، مع أن المستحق عليه بالجناية هو تحمل الألم النفسي بذلك مرة واحدة.

لكن الجانب النفسي و إن كان مهما جدا، إلا أن ملاحظة الشارع الأقدس له في الجنايات غير ثابتة. بل الثابت عدمها في الجملة، لأن الجناية الموجبة للقصاص قد لا تبتني علي معاناة المجني عليه نفسيا بانتظار القتل، فإن القصاص كما يثبت مع القتل صبرا يثبت مع القتل مباغتة من دون انتظار من المقتول.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 52

ج.. علي فرض لزوم إجراء الحدّ مرة ثانية فمن يتحمل دية ما ورد علي الجاني أو لا؟

ج: يتحمله المباشر الذي شرع في تنفيذ الحكم أولا و لم يكمله. هذا إذا فرض البرء و استقرار الحياة، و هو غير مفروض السؤال.

أما في مفروض السؤال فيجب الإجهاز لا غير، و لو بتركه من غير مداواة، و لا ضمان لما وقع.

س 16 بالنسبة للمحكوم بالقصاص، إذا اختار أولياء الدم إعدامه شنقا، و قبل لحظات من زهوق الروح عفا بعض أولياء الدم،

اشارة

فيرجي الجواب عن ما يلي:

أ.. هل يجب إيقاف التنفيذ أو ينتظر موافقة الجميع؟

ج: لا بد من التنبيه قبل ذلك علي أنه ليس لأولياء الدم اختيار كيفية تنفيذ القصاص، بل لهم تنفيذه بالسيف بنحو يجهز عليه من دون تعذيب، أو بما يشبه السيف في ذلك.

و ليس لهم اختيار طريق أشدّ إيذاء، كما سبق في جواب السؤال الرابع عشر. و علي ذلك لا يجوز للحاكم اختيار الشنق إذا كان أشد تعذيبا من الإجهاز بالسيف.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 53

إذا عرفت هذا ففي مورد السؤال و إن لم ينفذ عفو بعض أولياء الدم علي الآخرين، لأن لكل منهم الاستقلال في القصاص، إلا أنه يتعين التوقف عن تنفيذ القصاص إلا بعد ردّ الذي يريد القصاص علي ورثة الجاني من الدية بنسبة حقّ الذي عفا.

لصحيح أبي ولاد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قتل و له أم و أب و ابن، فقال الابن: أنا أريد أن أقتل قاتل أبي، و قال الأب: أنا أريد أن أعفو. و قالت الأم: أنا أريد أن آخذ الدية. قال: فليعط الابن أم المقتول السدس من الدية، و يعطي ورثة القاتل السدس من الدية حقّ الأب الذي عفا، و ليقتله» «1».

لظهور الأمر فيه بأداء فاضل الدية في بيان شرط جواز القتل له، و المنصرف منه الشرط المتقدم.

نعم، في صحيح جميل عن بعض أصحابه رفعه إلي أمير المؤمنين عليه السّلام:

«في رجل قتل و له وليّان، فعفا أحدهما، و أبي الآخر أن يعفو. قال عليه السّلام:

إن أراد الذي لم يعف أن يقتل قتل، و ردّ نصف الدية علي أولياء المقتول المقاد منه» 2.

و هو ظاهر في عدم اشتراط جواز تنفيذ القصاص بردّ فاضل الدية، و إنما يكون تنفيذ القصاص سببا لوجوب

ردّ فاضل الدية، فيترتب وجوب الردّ عليه.

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 52 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1، 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 54

لكن ضعف سنده مانع من الخروج به عن ظاهر الصحيح، بل يتعين العمل علي الصحيح. و لذا كان الظاهر عدم جواز تنفيذ القصاص لو كان الذي لم يعف عاجزا عن ردّ فاضل الدية.

و لعله لذا صرح في الشرائع بتقديم ردّ فاضل الدية علي القصاص، و في الجواهر أنه ظاهر كثير من العبائر.

ب.. نظرا إلي أنه إذا عفا بعض أولياء الدم فللآخرين القصاص إذا دفعوا لورثة الجاني بقدر حقّ العافين من الدية،

فلو قلنا بوجوب التوقف عن تنفيذ القصاص في الفرض السابق، فهل يبقي لباقي الأولياء حقّ القصاص مع ردّ فاضل الدية أو يسقط حقهم منه خصوصا إذا تكرر ذلك منهم بنحو التعاقب؟

ج: يتعين بقاء حقهم في القصاص، لإطلاق أدلة الحكم المذكور.

نعم، إذا كان ما حدث علي الجاني مقاربا للإجهاز عليه، بحيث يعد كالميت عرفا، فالأحوط وجوبا سقوط القصاص لرواية أبان التي تقدم الكلام فيها في جواب السؤال الخامس عشر.

و هي و إن وردت في القتل بالسيف- لأنه الآلة الشائعة الاستعمال في ذلك الوقت- إلا أن إلغاء خصوصيته قريب جدا، و لا سيما مع عدم تنصيص الإمام عليه السّلام عليه عند ذكر الواقعة، حيث يؤكد ذلك عدم خصوصيته.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 55

ج.. ما حكم العفو المشروط عن الجاني حين تنفيذ الحكم

، كما إذا قال وليّ الدم: إذا دفع الجاني لي مبلغ كذا عفوت عنه؟

ج: هذا ليس عفوا.

نعم، حيث كان ذلك راجعا إلي إناطة المطالبة بالقصاص بعدم دفع الجاني للمال، فمع العلم بعدم دفع الجاني للمال تحرز فعلية المطالبة بالقصاص، فيجوز التنفيذ، و مع احتمال دفعه لا يحرز فعليتها، فلا يجوز التنفيذ.

د.. من الذي يتحمل الخسائر الواردة علي الجاني في هذه المرحلة أو ما قبلها؟

ج: أما مع البناء علي سقوط القصاص فلا شي ء له.

و أما مع البناء علي عدمه سقوطه فالخسائر الواردة عليه إن لم يكن من شأنها الضمان فلا شي ء علي أحد، كنفقة انتقاله إلي محل تنفيذ القصاص.

و إن كان من شأنها الضمان- كالاعتداء علي بدنه في عملية التنفيذ- فهي مضمونة علي المباشر. لعدم سقوط حرمة الجاني بالإضافة إليها بعد عدم ترتب القصاص عليها، كما يظهر من ما سبق في جواب السؤال الخامس عشر.

هذا مع عدم علم المباشر بترتب العفو قبل إكمال التنفيذ. و إلا كان للجاني أن يقتص منه إذا كان من شأن ما وقع عليه أن يقتص له، لأنه أقدم علي الاعتداء عليه مع العلم بعدم الاستحقاق، لأن المستحق لما كان هو

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 56

القصاص فالجناية التي لا يترتب عليها القصاص غير مستحقة.

و من ذلك يظهر الحال في تكرار العملية، حيث يبدو أنه يبتني علي اتفاق أولياء الدم علي ذلك من أول الأمر من أجل تعذيب الجاني. و

حينئذ يمكن إحباط سعيهم بإيكال مباشرة التنفيذ إليهم، ليعرفوا كيف يتصرفون.

س 17 إذا اختار القاضي عقوبة الصلب للمحارب- علما أن المحارب إذا بقي بعد الصلب ثلاثة أيام يستحق الحياة- يرجي الإجابة عن ما يأتي:

أ.. إذا أراد المحارب قبل الصلب استعمال الأدوية و الأغذية التي تقاوم الموت، فهل يمنع من ذلك أو لا؟

ب.. إذا أعطاه شخص

الماء و الغذاء في فترة الصلب فهل يمنع من ذلك أو لا؟

ج: هذان السؤالان مبنيان علي أن الصلب ثلاثة أيام بنفسه عقوبة من دون أن يستلزم الموت. و لو تم ذلك تعين جواز الأمرين، لعدم الدليل علي المنع حينئذ.

بل يتعين- علي ذلك- وجوب الحفاظ علي حياة المصلوب بذلك أو غيره، جمعا بين عقوبة الصلب، و حرمة قتل المسلم و وجوب حفظ حياته.

نظير ما لو أمكن الجمع بين إقامة سائر الحدود التي لا تستلزم الموت و حفظ حياة المحدود.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 57

بل ثبت شرعا تخفيف بعض الحدود المذكورة أو لزوم تأخيرها لو خيف منها الموت. كما في المريض، علي ما يأتي في جواب السؤال الواحد و الخمسين.

و حيث لا يحتمل ذلك تعين كون المراد بالصلب ما يلازم الموت، إما لحصول الموت به، أو للقتل قبله أو بعده، علي الخلاف في ذلك. و يحمل عطف الصلب علي القتل في الآية الشريفة و النصوص علي عطف الأشد علي الأخف، بلحاظ ابتناء الصلب علي التنكيل و التشهير زائدا علي القتل.

و يناسبه ما في بعض النصوص من جعل الصلب في مورد زيادة الجريمة، ففي حديث علي بن حسان عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: و من حارب اللّه و أخذ المال و قتل كان عليه أن يقتل أو [و] يصلب، و من حارب فقتل و لم يأخذ المال كان عليه أن يقتل و لا يصلب … » «1».

و قريب منه في ذلك الصحيح عن الخثعمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام 2، و مرسل العياشي و الصدوق 3، و غيرها.

كما يناسبه أيضا ما في بعض النصوص من الجمع بين القتل و الصلب، كالصحيح عن عبيد اللّه المدائني

عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «سئل عن قول اللّه عز و جل: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً … فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: إذا حارب اللّه و رسوله و سعي في الأرض فسادا فقتل قتل به، و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب … » 4.

______________________________

(1) 1، 2، 3، 4 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب حدّ المحارب حديث: 11، 5، 8، 10.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 58

و نحوه في ذلك مرسل داود الطائي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «1».

علي أن ذلك هو المنصرف من الأمر بالصلب في المقام. إذ بعد تعذر حمل الأمر المذكور علي صرف الوجود- و لو بالصلب آنا مّا- فإطلاقه من دون تحديد ينصرف إلي الصلب حتي الموت.

نعم، ورد تحديد الصلب بثلاثة أيام في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أن رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم قال: لا تدعوا المصلوب بعد ثلاثة أيام حتي ينزل فيدفن» «2»، و نحوه خبره «3»، و مرسل الصدوق «4».

لكنها مختصة بمن هو ميت بعد الأيام الثلاثة، و لا يشمل من لم يمت فيها. بل الإنصاف أنها ظاهرة في المفروغية عن كون المراد بالصلب ما يساوق الموت، فهي دليل آخر علي المدعي، مؤكد لما تقدم.

و من ثم كان ظاهر كلام الأصحاب المفروغية عن أن إنزاله من خشبة الصلب بعد موته، إما لقتله قبل الصلب، أو لموته حينه، أو للإجهاز عليه بعد الثلاثة، أو لتركه أكثر من ثلاثة أيام حتي يموت بحمل التحديد بالثلاثة في النصوص المتقدمة علي خصوص من مات فيها.

فراجع الجواهر.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم استحقاق المصلوب الحياة بعد الأيام الثلاثة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب حدّ المحارب حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 5 من أبواب حدّ المحارب حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 5 من أبواب حدّ المحارب حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 59

و حينئذ لا موضوع للسؤالين المذكورين، إذ لا فائدة من استعمال الأدوية و إعطاء الماء و الأغذية إلا إطالة أمد عذابه لو فرض البناء علي جواز صلبه حيا و إبقائه أكثر من ثلاثة أيام حتي يموت.

أما لو كان لمجرد رفع ألم الجوع و العطش و الضعف عنه- لو فرض جواز صلبه حيا ثم الإجهاز عليه بعد الثلاثة إذا لم يمت فيها- فيشكل جواز تمكينه من الطعام و الشراب، لابتناء الصلب علي التنكيل به، و عدم الرفق به من هذه الجهة.

نعم، لا بأس بتمكينه من ذلك قبل الصلب، لأن التنكيل إنما يبدأ من حين الصلب، فلا مخرج عن أصل البراءة من حرمة ذلك. بل عن مقتضي قاعدة سلطنته علي نفسه.

س 18 بالنظر إلي ضرورة إشراف الحاكم علي استيفاء القصاص، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يجب علي ولي الدم أن يستأذن ولي الأمر أو من عيّنه لذلك في استيفاء القصاص؟

ج: لا يجب علي ولي الدم استئذان الحاكم، لأن القصاص حقّ له، و مقتضي إطلاق أدلته جواز استيفائه لحقه من دون إذن الحاكم، كسائر الحقوق الثابتة للإنسان.

نعم، في معتبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «من قتله

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 60

القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل و لا جراحة» «1».

لكن ربما يرجع ما تضمنه إلي اغتفار خطأ الحاكم في تشخيص موضوع القصاص و الأمن من السراية فيه، و عدم اغتفار خطأ الولي في ذلك،

من دون أن يدل علي وجوب استئذان الحاكم مع فرض تحقق موضوع القصاص.

و إلا فلو لم يشرع القصاص إلا بإذنه لزم ثبوت القصاص في ذلك، لتعمّد الإقدام علي فعل السبب من دون حقّ، مع عدم الخلاف، و لا الإشكال، في عدم ثبوت القصاص، بل و لا الدية، كما في الجواهر.

و غاية ما يحتمل في المقام هو وجوب استئذانه تعبدا، بحيث يجب التعزير لو بادر بالقصاص من دون إذنه، و لا ينهض بذلك المعتبر المذكور، و لا غيره. و الأصل البراءة من وجوب استئذانه.

نعم، لو تمّ الدليل علي ولاية الحاكم، بحيث له منع صاحب الحقّ من استيفاء حقه بدون إذنه، و ألزم الحاكم بالاستئذان، يكون الاستيفاء بدونه مخالفة لأمر الحاكم، فيلحقه حكمها. لكن سبق في جواب السؤال الثالث عدم تمامية الدليل علي ذلك.

ب.. في حالة لزوم الاستئذان، يرجي الإجابة عن ما يلي:

1.. إذا استوفي القصاص من دون إذن، هل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 24 من أبواب قصاص النفس حديث: 8.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 61

يؤثم أو يعدّ قاتلا و تترتب أحكامه؟

ج: بناء علي ما سبق لا يعدّ قاتلا، و لا تترتب عليه أحكام القاتل، بل سبق عدم الإشكال و الخلاف في ذلك، و أنه لا يثبت به القصاص و لا الدية، بل غاية الأمر الإثم و التعزير، لمخالفة وجوب الاستئذان شرعا، أو لمخالفة ولي الأمر، بناء علي ولايته في ذلك و وجوب طاعته.

2.. إذا استأذن ولي الأمر فلم يأذن له، و مع ذلك استوفي القصاص، فما هو الحكم؟

ج: يظهر الجواب عنه من ما سبق. و الظاهر عدم الإشكال عندهم في عدم جواز منع الحاكم من استيفاء القصاص بعد كونه حقّا له. غايته أن له

الإشراف علي استيفائه.

س 19 في الموارد التي يختار أولياء الدم فيها العفو عن القاتل أو يطالبون بالدية، إلا أن الظروف السياسية و الاجتماعية لا تجعل العفو من الصالح العام، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يمكن أن تقوم الحكومة بعقوبة القاتل إذا رأت ذلك؟

ج: بعد أن حدّد الشارع الأقدس الحكم في الواقعة، و أو كل الأمر إلي ولي الدم، فليس علي الحكومة إلا التنفيذ، و ليس لها أن تخرج عن مقتضي

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 62

الحكم الشرعي، لمنافاة ذلك لحرمة الإنسان و سلطنته علي نفسه و حقه. إلا بلحاظ أمور..

الأول: ولاية الحاكم علي ولي الدم، و هو ما يأتي في الفقرة (ج).

الثاني: البناء علي ولاية الحاكم علي الناس، و منهم الجاني، بحيث له أن ينال منه ما لا يستحقه شرعا بالجناية، الراجع إلي كون الحاكم أولي بالمؤمنين من أنفسهم. و قد سبق في جواب السؤال الثالث عدم ثبوت ذلك، بل ثبوت عدمه.

الثالث: أن يصير المورد من موارد إنكار المنكر بشروطه، و منها ترتب الأثر عليه، بأن يتوقف الحدّ من المنكر علي العقوبة الزائدة، لعدم تأثير العقوبة الشرعية بحدودها في تغيير المنكر و الحدّ منه، بل تبقي الجرأة عليه، و لا ضابط لذلك.

كما أنه لا يختص بالمقام، و لا يقتضي إعمال العقوبة الشرعية من غير إذن وليّ الدم. بحيث ليس له المطالبة بالدية و الرضا بها، بل القيام بعقوبة أخري حسبما تقتضيه ظروف الحادثة.

ب.. في حالة عدم موافقة وليّ الدم علي القتل، هل يمكن للحكومة أن تؤدي الدية من بيت المال؟

ج: لا مجال لذلك، إذ مع فرض قصور ولاية ولي الدم لا يستحق الدية، لتدفع له من القاتل أو من بيت المال أو من غير هما، و مع فرض فعلية

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 63

ولايته و مطالبته بالدية من القاتل

فالدية علي القاتل.

غاية ما يمكن دعواه حينئذ قيام الحكومة بإضافة عقوبة أخري للقاتل مع الدية. و هو ما سبق الكلام فيه في جواب الفقرة (أ).

ج.. هل يمكن لوليّ الأمر أن يقتل القاتل بناء علي ولايته علي وليّ الدم؟

ج: هذا موقوف علي ثبوت الولاية المطلقة له، الراجعة إلي أنه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، بحيث يمنعه من إعمال حقه في عدم اختيار القصاص و القبول بالدية. و قد سبق عدم ثبوت الولاية بالمقدار المذكور.

س 20 في موارد قصاص الأطراف، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يجوز للمجني عليه العفو عن بعض ماله فيه حق القصاص، و استيفاؤه في البعض الآخر

، كما إذا كان المجني عليه قد قطعت يده من الكتف، فهل له أن يستوفي حقه من المرفق مثلا؟

ج: لا مجال لذلك إلا حيث تكون الجناية علي أجزاء البدن انحلالية عرفا، كما لو جرح الجاني جرحا طوله 15 سم مثلا، فإن له الاقتصار علي جرح أقصر طوله 10 سم مثلا، لأن شق مساحة 15 سم ترجع إلي شق مساحة 10 سم و زيادة، فله العفو عن الزيادة.

أما مع عدم انحلاليتها عرفا- كما في المثال المذكور في السؤال- فلا

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 64

مجال للقصاص بالوجه المذكور، لتباين الجنايتين و إن اختلفت خسارتهما بالزيادة و النقصان، و مع تباين الجنايتين لا يصدق القصاص.

نعم، لا بأس بذلك برضا المجني عليه، بحيث يتمّ التصالح بينهما عليه. لا من جهة كونه قصاصا مستحقا. بل لعموم أدلة الصلح بعد حليّة متعلقه.

لأن قطع بعض العضو و إن كان موردا للإشكال في نفسه، بلحاظ منافاته لحكمة خلقه- كما يأتي في جواب السؤال الثاني و الستين- فتشكل مشروعية الصلح عليه.

إلا أنه لا إشكال فيه و في مشروعية الصلح عليه في المقام بعد استحقاق قطع تمام العضو، فيرجع الصلح إلي حفظ بعض العضو، الذي هو مشروع قطعا.

ب.. هل يمكن للمجني عليه أخذ الدية لبعض الجناية و القصاص للبعض الآخر؟

ج: لما كان التصالح علي قطع بعض العضو مشروعا- كما سبق- يتعين جواز التصالح بينهما علي قطع بعض العضو مع أخذ شي ء في مقابل الباقي بالمقدار الذي يتفقان عليه، من دون نظر للدية.

لكنه ليس من الجمع بين القصاص و الدية، بل تصالح مستقل تقتضي مشروعيته عمومات الصلح.

نعم، مع كون الجناية انحلالية عرفا إذا كان للبعض دية شرعية يجوز

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 65

للمجني عليه إلزام الجاني بالقصاص في البعض و الدية في الباقي، كما لو

قطع أربع أصابع منه، فله إلزامه بقطع إصبعين و أخذ الدية عن إصبعين.

و هذا بخلاف ما لو لم يكن للباقي دية، كما في الجروح، فإنه لا دية لأبعاضها، بل الدية لها بمجموعها، فالانتقال للعوض في الباقي يحتاج لرضا الجاني، و التصالح بينهما علي ذلك، كما سبق فيما إذا لم تكن الجناية انحلالية.

ج.. هل يفرق الحال في ما تقدم بين رضا الجاني و عدم رضاه؟

ج: نعم يفرق بين الوجهين، و لا بد من رضا الجاني، كما يظهر مما سبق.

س 21 في موارد قصاص النفس، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يتمكن أولياء الدم تبديل قصاص النفس بقطع عضو من أعضاء القاتل؟

ج: لا مجال لذلك، لعدم المماثلة عرفا.

نعم، يجوز مع رضا المجني عليه و التصالح معه؛ لعموم أدلة الصلح مع كون موضوعه محللا. و قطع العضو و إن كان مشكلا في نفسه- كما أشرنا إليه في جواب السؤال العشرين- إلا أنه لا إشكال فيه في المقام بعد كون إتلاف النفس مستحقا، و كان إتلاف العضو من أجل الحفاظ علي النفس، نظير ما سبق في جواب الفقرة (أ) من السؤال العشرين.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 66

ب.. هل يتمكن أولياء الدم أن يقطعوا عضوا من القاتل، و يأخذوا فرق الدية علي الباقي؟

ج: نعم يمكنهم ذلك. لكنه ليس من الجمع بين القصاص و الدية، بل هو صلح مستقل، نظير ما سبق في جواب الفقرة ب من السؤال العشرين.

ج.. هل يمكن لأولياء الدم أن يقطعوا عضوا من القاتل، و يتصالحوا علي الباقي؟

ج: نعم يمكنهم ذلك، بل ما تقدم في جواب الفقرة ب راجع إليه، كما سبق.

د.. هل يتوقف اختيار أحد الوجوه السابقة علي رضا القاتل؟

ج: نعم لا بد من رضاه، نظير ما سبق في جواب السؤال العشرين بفقراته المتقدمة.

س 22 في حالة يأس المجني عليه حين إصابته من الحياة، يرجي الإجابة علي السؤال التالي:

هل يمكن للمجني عليه في هذه الحالة الإيصاء بأخذ الدية من الجاني أو العفو عنه بدلا من القصاص، و هل تكون وصيته بذلك نافذة؟

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 67

ج: لا تنفذ الوصية المذكورة. لاختصاص دليل نفوذ الوصية بمال الموصي، و لا تشمل حقّ غيره، كحقّ القصاص في المقام، لأن القصاص حقّ للولي، كما هو صريح قوله تعالي: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً «1».

و هو المستفاد من النصوص أيضا.

بل من الظاهر أن حقّ القصاص إنما يثبت بالموت، فلا يملكه الميت، بل لا بد من ملك الحيّ له، و هو الولي لا غير.

و أما ما دل علي قضاء دين الميت من ديته، و تنفيذ وصيته منها، و أنه إن عفا أولياء الدم عن القاتل ضمنوا دينه، فهو حكم تعبدي لا يبتني علي ملكيته للدية، و استحقاق القصاص. و لذا كان الظاهر عدم ضمانهم للدين لو اقتصوا. عملا بالقاعدة- لأنه حقّ لهم، فلا يتعلق به حقّ الديّان- و اقتصارا في الخروج عنها علي ما تقدم.

هذا و لو فرض نفوذ الوصية المذكورة فلا خصوصية ليأس المجني عليه من الحياة في ذلك، كما قد يظهر من السؤال، بل تنفذ حتي مع أمله في الحياة. بل حتي لو صدرت منه قبل الجناية عليه لاحتمال وقوع الجناية عليه.

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية: 33.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 68

س 23 بالنسبة إلي لزوم تأخير إجراء الحدّ و القصاص علي المرأة المرضع، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يشمل هذا الحكم المرأة المرضعة غير الوالدة؟

ج: يتعين اختصاص تأجيل الحدّ علي المرضع بالوالدة التي هي موضوع كلام الأصحاب رضي اللّه عنهم. لاختصاص الدليل بها، و هو موثق عمار الساباطي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن محصنة زنت و هي حبلي. قال: تقرّ حتي تضع ما في بطنها و ترضع ولدها، ثم ترجم» «1».

و هو- كما تري- مختص بالوالدة التي تزني و هي محصنة حامل، و التي يكون حدّها الرجم، دون

غيرها. و هو يشمل عدة نساء..

الأولي: غير الوالدة، و هي مورد السؤال، و المتعين عدم التعدي لها بعد قصور الموثق عنها، و قوة احتمال خصوصية الوالدة، بلحاظ شدة عاطفتها بطفلها، و كون رعايتها لطفلها مدة الرضاع أصلح له نوعا.

نعم، إذا توقفت حياة الطفل علي رعاية المرضعة غير الوالدة له، أو احتمل ذلك احتمالا معتدا به تعين تأجيل الحدّ. لأهمية حفظ حياته من تعجيل الحدّ.

لكن ذلك لا يختص بالمرضعة. بل يجري في كل مورد توقف فيه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب حدّ الزني حديث: 4.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 69

حفظ النفس المحترمة علي تأجيل الحدّ، و لا ضابط له. و هو خارج عن محل الكلام.

الثانية: الزانية غير المحصنة الحامل. كما لو حملت من الزني، أو من زواج قبل الزني مع خروجها عن الإحصان حين الزني بموت الزواج أو غيبته، أو من زواج بعد الزني قبل إقامة الحدّ عليها. و يلحق بها غير الزانية ممن عليها حدّ و هي مرضع.

و حينئذ فالحدّ إن كان قتلا- كما في الزني بعد إقامة الحدّ عليها ثلاثا- فمن القريب إلحاقه بمورد النص، لفهمه منه بعد إلغاء خصوصية مورده عرفا و هو المناسب لإطلاق بعض كلمات الأصحاب.

بل مقتضي إطلاق بعضها و صريح آخر العموم لغير القتل كالجلد و القطع. لكنه غير ظاهر، بل يتعين وجوب التعجل به، حتي لو خيف من إضراره باللبن.

و لا مجال لإلغاء خصوصيته عرفا بنحو يشمل ذلك. كما لا مجال لإلحاقه بمورد النص بتنقيح المناط. بل هو أشبه بالقياس، و لا سيما بعد الفرق ببقاء رعايتها للطفل.

فلا مخرج عن عموم وجوب التعجيل بالحدّ الذي يأتي الاستدلال عليه في جواب السؤال الواحد و الخمسين.

نعم، لو

خيف علي الطفل من ذلك، لعدم البديل للبنها، أو لعجزها عن رعايته من دون بديل عنها، جري ما سبق في غير الوالدة.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 70

الثالثة: الزانية غير الحامل، كما لو زنت بعد الوضع و هي مرضع، أو قبل الحمل و لم يثبت عليها الزني إلا بعد الوضع حال الإرضاع.

و الظاهر إلحاقها بمورد النص إذا كان حدّها القتل، رجما أو غيره.

لإلغاء خصوصية مورده عرفا، حيث يستفاد منه اهتمام الشارع الأقدس برضاع الأم للطفل من دون خصوصية لوقوع الزني حال الحمل. و هو الظاهر من إطلاق بعض كلمات الأصحاب. أما لو لم يكن حدّها القتل فيجري فيها ما سبق. هذا كله في الحدّ.

أما القصاص فظاهر الجواهر في كتاب الحدود أولويته من الحدّ في التأجيل. و كأنه لعدم وجوب التعجيل فيه شرعا، بل لأولياء الدم تأخيره.

و فيه: أنه كما يجوز تأجيله برضاهم، كذلك يجب التعجيل لو طالبوا به.

و حينئذ يتعين عدم منع الرضاع لهم من التعجيل به بعد اختصاص الموثق بالحدّ، و احتمال دخل خصوصيته في الحكم، لكونه حقا للّه تعالي.

و تنازله سبحانه عن التعجيل بحقه لا يستلزم إلزامه لأولياء الدم بعدم التعجيل بحقهم، كما اعترف بذلك في كتاب القصاص من الجواهر.

فالمتعين وجوب التعجيل به لو أرادوا ذلك.

نعم، لو خيف علي حياة الطفل من التعجيل بالقصاص فالظاهر لزوم التأجيل لأهمية حياة الطفل، نظير ما سبق.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 71

ب.. إن قيل بعموم الحكم للوالدة و غيرها، فهل يفرق بين إمكان استبدالها بمرضعة أخري أو الاكتفاء بالحليب المجفف، أو حليب البقر، و تعذر ذلك؟

ج: الكلام في ذلك لا يتوقف علي عموم الحكم لغير الوالدة. بل يجري مع اختصاص الحكم بها كما سبق. و هو ظاهر الأصحاب.

قال في الشرائع: «و لا يقام الحدّ علي الحامل حتي تضع، و تخرج من نفاسها، و ترضع الولد إن لم يتفق له

مرضعة. و لو وجد له كافل جاز إقامة الحدّ»، و في الجواهر بعد أن حمل جواز إقامة الحدّ مع الكافل علي الوجوب قال: «بلا خلاف أجده فيه. لأنه ليس في الحدود نظر ساعة».

لكن لا بد من الخروج عن عموم وجوب التعجيل بإطلاق الموثق المتقدم، الشامل لما إذا تيسر البديل، كما ذكر ذلك في الجواهر في آخر كلامه.

و لا شاهد علي حمله علي صورة عدم تيسر البديل عدا النبوي العامي المتضمن أنها لما ولدت قال صلي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا لا نرجمها و ندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه. فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي اللّه، فرجمها» «1». و هو لا ينهض بالاستدلال، و الخروج عن إطلاق الموثق.

نعم، في صحيح أبي مريم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: أتت امرأة

______________________________

(1) سنن البيهقي ج: 8 ص: 229.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 72

أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: إني قد فجرت، فأعرض بوجهه عنها، فتحولت حتي استقبلت وجهه فقالت: إني قد فجرت، فأعرض عنها، ثم استقبلته فقالت: إني قد فجرت، فأعرض عنها، ثم استقبلته فقالت: إني فجرت، فأمر بها فحبست و كانت حاملا، فتربص بها حتي وضعت، ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة … » «1».

و من ثمّ حمل بعض مشايخنا قدس سرّه الرضاع في الموثق علي رضاع اللباء، قال: «فإن الطفل علي ما قيل لا يعيش بدونه»، و حكم بلزوم التعجيل بالحدّ بعده. إلا أن تتوقف حياة الولد علي إرضاعها له إرضاعا كاملا، فيجب انتظاره، حفاظا علي حياته. الذي هو أهمّ من التعجيل بالحدّ، فيقدم مع التزاحم.

لكن الجمع المذكور تبرعي بلا شاهد. بل يبعد جدا حمل إطلاق الرضاع

في الموثق علي خصوص إرضاع اللباء، لتعارف حصوله إلي حين تهيئة مقدمات الحدّ بنحو لا يخل بالتعجيل عرفا، لقصر مدته. علي أن توقف حياة الطفل علي رضاع اللباء في غاية المنع- و إن قيل إنه المشهور- لما هو المعلوم من تعارف حياة الطفل لو ماتت أمه حين وضعها له قبل رضاعه اللباء منها.

فالعمدة في منع الاستدلال بالصحيح أنه قد تضمن قصة في واقعة لا إطلاق لها، لاحتمال ولادتها الطفل ميتا أو امتناعها من إرضاعه- بعد عدم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب حدّ الزني حديث: 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 73

وجوبه عليها- رغبة في التعجيل بإقامة الحدّ طلبا للتطهير من الجريمة، كما قد يناسبه إصرارها علي الإقرار حتي كررته أربع مرات، من دون أن تكون مطالبة به.

و من ثم لا ينهض الصحيح بالخروج عن الموثق الذي يتعين حمله- بعد عدم وجوب الإرضاع عليها- علي عدم جواز التعجيل بالحدّ لو أرادت التأجيل من أجل الإرضاع و إن لم يتوقف عليه حفظ حياة الطفل، لتيسر البديل.

ج.. هل البحث عن البديل وظيفة الحاكم، أو وظيفة وليّ الطفل؟

ج: لا موضوع لهذا السؤال بناء علي ما سبق من عدم وجوب التعجيل مع تيسر البديل.

أما بناء علي وجوب التعجيل حينئذ، ففي المقام صورتان:

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مسائل معاصرة في فقه القضاء، در يك جلد، دار الهلال، نجف اشرف - عراق، دوم، 1427 ه ق مسائل معاصرة في فقه القضاء؛ ص: 73

الأولي: أن يشك في أصل وجود البديل بنحو يتيسر الوصول له.

و الظاهر عدم وجوب الفحص حينئذ لاستصحاب عدمه. و لا يتوقف الرجوع للأصل في الشبهة الموضوعية علي الفحص.

و هو المناسب لما سبق في النبوي من امتناعه صلي اللّه عليه و آله و سلم من إقامة الحدّ

حتي عرض الأنصاري إرضاعه من دون أن يفحص صلي اللّه عليه و آله و سلم عن من يرضعه أو يسعي لتحصيله.

نعم، بناء علي ما سبق من بعض مشايخنا قدس سرّه- من حمل الموثق علي

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 74

خصوص إرضاع اللباء، و عدم الانتظار لإكمال الرضاع إلا إذا توقف عليه حياة الطفل، لأهمية حفظ حياته من وجوب تعجيل الحدّ، فيقدم مع التزاحم- فلا بد في التأجيل من إحراز توقف حياة الطفل عليه، و هو لا يكون إلا بالفحص، فيجب.

و بعبارة أخري: يعلم في المقام بتحقق موضوع وجوب التعجيل بالحدّ، و الشك في فعليته إنما يكون للشك في وجود المزاحم، الذي هو من سنخ العذر المسقط للتكليف، فيجب الفحص عنه حينئذ، نظير وجوب الفحص و الاحتياط مع الشك في القدرة.

و الفحص حينئذ وظيفة الحاكم، لأنه المكلف بتأجيل الحدّ. أما الوليّ فلا دخل له بإقامة الحدّ، ليجب عليه الفحص عن البديل من أجل إقامته.

الثانية: أن يعلم بوجود البديل بنحو يتيسر الوصول له، بحيث يعلم بتحقق موضوع الحدّ و فعليته.

و حينئذ إن لم تتوقف حياة الطفل علي الوصول للبديل قبل إجراء الحدّ، لتيسر الوصول إليه بعد إقامة الحدّ من دون إضرار بالطفل، وجب التعجيل بالحدّ. لتحقق موضوعه، و لا يجب علي الحاكم الفحص عن البديل بعد عدم توقف التعجيل بالحدّ عليه، و إنما يجب علي الوليّ، لأنه المكلف برعاية الطفل و تهيئة أسباب الحياة له.

و إن توقفت حياة الطفل علي الوصول للبديل قبل إجراء الحدّ، لصعوبة الوصول للبديل وجب علي الحاكم الفحص عن البديل من أجل

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 75

الوصول إليه، لرفع المانع المزاحم من إجراء الحدّ بعد فعلية موضوعه.

هذا و نفقة البديل علي الوليّ

من ماله أو من مال الطفل، لأنه المكلف بنفقة الطفل، دون الحاكم. غاية الأمر أنه يحرم علي الحاكم تعريض الطفل للخطر بإجراء الحدّ من دون أن يتيسر البديل. و ذلك لا يستلزم تكليفه بنفقته مع تيسره.

أما لو توقف تيسر البديل علي بذل الحاكم لنفقته، لعدم وجود مال للطفل و لا لمن يكلّف بنفقته، فالظاهر عدم وجوب التعجيل بالحدّ، و عدم وجوب البذل علي الحاكم من بيت المال من أجل التعجيل به.

أما بناء علي توقف وجوب تعجيل الحدّ علي تيسر البديل، لكونه دخيلا في موضوعه، فظاهر، لعدم وجوب تهيئة مقدمة الوجوب علي المكلف.

و أما بناء علي أن توقفه عليه لمزاحمة وجوب حفظ حياة الطفل لوجوب التعجيل بالحدّ، من دون أن يكون دخيلا في موضوعه، فلعدم وضوح أهمية وجوب تعجيل الحدّ بنحو تقتضي تحميل بيت المال لنفقة الطفل مع وجود الأم المكلفة بالإنفاق عليه و إرضاعه.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 76

س 24 بالنسبة إلي الشخص المحكوم بالموت- حدّا أو قصاصا- هل يمكن التنازل عن الحدود و التعزيرات التي ثبتت عليه إذا كانت أقل من القتل؟

و هل يفرق في ذلك بين حقّ الناس و حقّ اللّه تعالي؟

ج: لا مجال لذلك بعد إطلاق أدلة الحدود و التعزيرات المذكورة، حيث تمنع الإطلاقات المذكورة من التداخل، و تلزم باستيفاء الجميع. و لا فرق في جميع ذلك بين حقوق اللّه تعالي و حقوق الناس.

مضافا إلي النصوص الكثيرة المتضمنة أن من اجتمع عليه حدود أحدها القتل حدّ أولا، ثم قتل، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

أيما رجل اجتمعت عليه حدود فيها القتل يبدأ بالحدود التي هي دون القتل، ثم يقتل بعد ذلك» «1».

و موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قضي أمير المؤمنين في من قتل و شرب خمرا، و سرق، فأقام عليه الحدّ، فجلده لشربه الخمر، و قطع يده في

سرقته، و قتله بقتله» 2 و غير هما.

و يؤيده ما ورد في النباش إذا وطأ الميّتة، كخبر عبد اللّه بن محمد الجعفي: «كنت عند أبي جعفر عليه السّلام و جاءه كتاب هشام بن عبد الملك في رجل نبش امرأة فسلبها ثيابها ثم نكحها … فكتب إليه أبو جعفر عليه السّلام: إن

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 15 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1، 7.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 77

حرمة الميت كحرمة الحي، تقطع يده لنبشه و سلبه الثياب، و يقام عليه الحدّ في الزني، إن أحصن رجم، و إن لم يحصن جلد مائة» «1».

و قريب منه ما عن الاختصاص عن الرضا عليه السّلام 2.

هذا و من موثق سماعة المتقدم يظهر عموم القتل للقصاص.

س 25 إذا كان ورثة المقتول صغارا، فيرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل الأصلح دائما أخذ الدية من قبل أولياء الصغار لهم،

أم يختلف الأمر بحسب الموارد، فيمكن في بعض الحالات للولي العفو عن القاتل، أو طلب القصاص؟

ج: يختلف ذلك باختلاف الموارد، فقد يري الولي أن المصلحة في العفو، كما إذا علم بأن الجاني و أهله سيؤدون للصغير بسبب العفو نفعا يحتاج إليه.

و قد يري أن المصلحة في القصاص، كما لو علم من حال المولّي عليه- و لو بسبب ضغط العرف الاجتماعي- أنه لو لم يقتصّ من القاتل وقع في محذور مهمّ، كقتل غير القاتل أخذا بالثأر، أو نحو ذلك. و لا سيما مع ظهور عجز القاتل أو عاقلته عن أداء الدية أو مماطلتهم فيها حتي تضيع علي وليّ الدم لو رضي بها.

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 2، 6.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 78

و قد يري المصلحة في أخذ الدية أو أكثر منها، كما لو تيسر أخذ ذلك

و كان المولّي عليه في حاجة للمال، خصوصا إذا أدرك تعذر القصاص أو ترتب مشاكل عليه في حق المولّي عليه. و لا ضابط لذلك.

هذا و لكن صرح الشيخ بوجوب انتظار المولّي عليه حتي يرتفع الحجر عنه، و يختار ما يريد، و ليس للولي أن يتولي القود.

قال في المبسوط: «و إن كان الوارث واحدا يولّي عليه مجنون أو صغير، و له أب أو جدّ- مثل إن قتلت أمه و قد طلقها أبوه- فالقود له وحده، و ليس لأبيه أن يستوفيه، بل يصبر حتي إذا بلغ كان ذلك إليه. و سواء كان القصاص طرفا أو نفسا. و سواء كان الولي أبا أو جدا أو الوصي. الباب واحد. و فيه خلاف»، و نحوه في الخلاف.

و قد يستدل عليه بوجوه..

الأول: ما في الخلاف من دعوي إجماع الفرقة و أخبارهم.

و فيه: أن ظاهر كلامه رجوع الاستدلال المذكور لما ذكره في أول المسألة من أنه إذا كان للقتيل أولياء بعضهم رشيد و بعضهم مولّي عليه كان للرشيد أن يستوفي حقه في القصاص، بشرط أن يضمن للمولّي عليه حقه من الدية. علي أن مثل هذه الدعوي منه قدس سرّه لا تبلغ مرتبة الحجية.

الثاني: عدم ثبوت الولاية علي ما لا يمكن تلافيه، كالعفو لو أراد الولي أن يقتصّ، و التشفي لو أراد الولي العفو أو أخذ الدية.

و فيه: أن مبني الولاية علي قيام المولّي عليه حتي في ما لا

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 79

يمكن تلافيه، كزواج البنت دواما، و إجراء العقود الملزمة، و نحوهما، و لا خصوصية للمقام في ذلك.

الثالث: موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «أن عليا عليه السّلام قال: انتظروا بالصغار الذين قتل أبوهم أن يكبروا،

فإذا بلغو خيّروا، فإن أحبوا قتلوا، أو عفوا، أو صالحوا» «1». فإن الأمر بانتظارهم ظاهر في عدم سلطنة وليهم علي إعمال حقهم.

و قد يستفاد أيضا من صحيح أبي ولاد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قتل و له أولاد صغار و كبار، أ رأيت إن عفا الأولاد الكبار؟ قال: فقال:

لا يقتل. و يجوز عفو الأولاد الكبار في حصصهم، فإذا كبر الصغار كان لهم أن يطلبوا حصصهم من الدية» 2. فإنه و أن لم يتضمن الأمر بالانتظار، إلا أنه ظاهر في أن المطالبة بالدية من شئونهم لا من شئون وليهم.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر الصحيح منعهم بعفو الكبار من القصاص، و تعين الدية لهم، فلهم المطالبة بها إذا كبروا، و هو غير ما ذكره الشيخ قدس سرّه.

فالعمدة الموثق.

لكن يشكل الاستدلال به..

أولا: لأنه مختص بقصاص النفس، دون قصاص الطرف، و بالصغير دون غيره من المولّي عليهم.

و ثانيا: لأن المفروض فيه قتل الأب، فكيف يكون دليلا علي نفي

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 53 من أبواب القصاص في النفس حديث: 2، 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 80

سلطنة الأب علي إعمال ولايته في ذلك؟! بل لا يبعد انصرافه عن صورة وجود الجدّ، و وصي الأب اللذين ثبت إطلاق ولايتهما بنحو يشمل المقام.

لابتناء وجودهما لعناية تحتاج للتنبيه. بل من القريب جدا انصراف الموثق لفرض عدم وجود من له الولاية المطلقة علي الصغار، فلا ينهض بتقييد ولاية من له الولاية المذكورة.

و ثالثا: لأن من القريب ورود الموثق لدفع توهم عدم ثبوت الحقّ للصغار، و أن السلطنة لغيرهم من أولياء المقتول من من هو في طبقتهم أو بعدهم في الطبقة، بحيث ينفذ تصرفهم في حقّ الصغار.

فهو وارد

لبيان أن الحقّ ثابت للصغار كما هو ثابت للكبار، فلا بد من مراعاة حقهم، و لا يلزمون بإعمال غيرهم للحقّ، و حيث لا قابلية للصغار علي إعمال حقهم ينتظر بهم حتي يكبروا.

فالأمر بالانتظار بهم لبيان ثبوت الحقّ لهم، و عدم نفوذ تصرف غيرهم عليهم، لا لبيان عدم نفوذ تصرف وليهم بدلا عنهم في ما هو صلاحهم، لاحتياج ذلك إلي عناية يصعب حمل الموثق عليها.

و لا سيما و أن المنظور الأولي كون الأصلح للصغار الدية، فيراد بذلك أن التشفي من الجهات التي ترعي لهم كما ترعي للكبار. و لا ينافي ذلك قيام وليهم مقامهم في ذلك بعد لحاظ جميع الجهات و الموازنة بينها لصالحهم.

و من ثم لا مجال للاستدلال بالموثق لما ذكره الشيخ قدس سرّه.

و أشكل من ذلك ما ذكره في المبسوط من أن القاتل يحبس حتي يبلغ

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 81

الصغير، و يفيق المجنون، لأن في الحبس منفعتهما معا، للقاتل بالعيش، و للمولي عليه بالاستيثاق.

إذ فيه: أن الحبس تعد علي الجاني مناف لاحترامه و سلطنته علي نفسه و لا سيما مع عدم العلم بإفاقة المجنون.

و لا ينهض ما ذكره من الوجه- الذي هو بالاستحسان أشبه- بإثبات مشروعيته، خصوصا و أنه قد يحتاج مع الحبس للنفقة علي نفسه، و علي من يعول به، كما إذا كان فقيرا لا مال له. و جعلها علي وليّ الدم، أو علي بيت المال يحتاج للدليل، و هو مفقود.

و مثله ما ذكره قدس سرّه من أن للولي العفو علي مال مع بقاء حق القصاص للمولّي عليه، بنحو له أن يستوفيه مع ارتفاع الحجر عنه.

إذ مع نفوذ عفو الولي يتعين سقوط حق المولّي عليه في القصاص، و مع عدم نفوذه

لا وجه لاستحقاق المال الذي يؤخذ به. و من ثم كان ما ذكره قدس سرّه في غاية الإشكال. و لا مخرج عن ما سبق.

ب.. هل تتفاوت حدود صلاحية الولي مع صلاحية القيم في هذا المجال؟

ج: الظاهر تفاوتهما، فالأب و الجدّ و الوصي قد ثبت إطلاق ولايتهم، و ليس كذلك القيّم. لأن المتيقن ولايته لإدارة أمور اليتيم الحياتية.

و لا دليل علي عموم ولايته لإعمال مثل الحقّ المذكور في المقام، بل يتعين اقتصاره في إعماله علي صورة الضرورة الملحّة التي يعلم معها برضا

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 82

الشارع الأقدس بإعمال الحقّ، كما لو كان المولّي عليه في ضرورة للمال، أو ظهرت أمارات ضياع الحقّ علي المولّي عليه بهروب القاتل، أو نحوهما.

و الأمر أظهر بناء علي المختار من عدم ولاية الحاكم الشرعي علي نصب القيّم، و أن المتيقن ولاية الحاكم الشرعي علي القاصر حسبة، من أجل القيام بضروراته و سدّ حاجاته، و أن من يقوم مقامه وكيل عنه، لا قيّم منصوب من قبله، كما أطلنا الكلام فيه في المسألة الرابعة و العشرين من مباحث التقليد من كتابنا مصباح المنهاج «1».

س 26 في مورد تعرض الصغار و المجانين للضرب أو الجرح أو التوهين، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يحق للوليّ- المسؤول عن رعاية مصلحة المولّي عليه- العفو؟

ج: نعم ينفذ منه العفو بدلا عن المولّي عليه، إذا كان صلاحا للمولّي عليه بنظره، عملا بمقتضي ولايته.

خلافا للشيخ قدس سرّه في المبسوط و الخلاف. كما تقدم ذكر كلامه و دليله و الجواب عنه في جواب السؤال الخامس و العشرين.

نعم، لم يتضح موضوع العفو في التوهين، لعدم الحدّ في الفرية علي الصغير و المجنون، بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، كذا في الجواهر. للنصوص الكثيرة، كصحيح الفضيل بن يسار: «سمعت أبا

______________________________

(1) مصباح المنهاج، الاجتهاد و التقليد ص: 190.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 83

عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا حدّ لمن لا حدّ عليه. يعني: لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا، و لو قذفه رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حدّ» «1»، و غيره.

ب.. ما هو الملاك في تصرف الولي إزاء المولّي عليه، هل يكتفي بعدم الضرر للمولّي عليه، أو لا بد من حصول النفع له؟

ج: لا يعتبر في تصرف الأب و الجدّ في الطفل و ماله ترتب المصلحة.

لما دل علي جواز تقييمهما ماله بقيمة المثل عند الحاجة إليه، و علي تزويجهما له، مع أنه لا فائدة له بهما غالبا. و للسيرة علي استخدام الطفل في كثير من الحالات من دون مراعاة نفع له بذلك.

نعم، لا بد من عدم لزوم المفسدة من التصرف، و عدم كونه تفريطا عرفا في حقّ الطفل، لمنافاة الأمرين لمقتضي الولاية عرفا.

فلا يجوز التصرف مع المفسدة، كبيع ماله بأقل من ثمن المثل من دون مصلحة له في ذلك.

كما لا يجوز التصرف بما يعد تفريطا عرفا و إن كان فيه مصلحة، كالبيع بأكثر من ثمن المثل قليلا، مع تيسر البيع بأكثر من ذلك من دون مصلحة أخري.

بل الأحوط وجوبا في مثل إعمال الحقوق و إسقاطها- كهبة المدة في النكاح المنقطع و الفسخ في مورد الخيار، و العفو

في المقام-

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 19 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 84

الاقتصار مع الأمرين السابقين علي صورة الحاجة العرفية لذلك- بأن يكون عدم القيام بها معرضا لحدوث مشكلة للصغير- أو حصول مصلحة معتدّ بها له، و لو بأن يبذل مال معتد به للطفل بإزاء التصرف المذكور. لعدم وضوح قيام السيرة علي ما زاد علي ذلك، و عدم النص فيه بالخصوص.

أما غير الأب و الجدّ من الأولياء فهم يشار كونهما في أكثر ذلك.

نعم، يشكل عموم ولايتهم لمثل الزواج من دون حاجة عرفية له.

س 27

1.. إذا لم يتم تنفيذ حكم القصاص للأسباب الآتية، فهل يمكن إيداع الجاني السجن إلي حين تنفيذ الحكم حتي و لو طالت المدة؟

أ.. إذا امتنع أولياء الدم من تسديد فاضل الدية لفقر أو غيره؟

ج: لا ينبغي التأمل في عدم جواز الحبس، لانتظار إقامة الحدّ. لأنه تعد علي الجاني مناف لقاعدة السلطنة في حقه. خصوصا مع ابتناء الحدّ علي التعجيل.

نعم، ورد في جملة من نصوص الرجم أمر الناس بحضوره في اليوم الثاني، و الخروج بمن عليه الرجم صباحا «1»، حيث يناسب ذلك الاحتفاظ بالمرجوم تلك الليلة.

______________________________

(1) راجع الوسائل ج: 18 باب: 31 من أبواب مقدمات الحدود.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 85

بل صرّح بالحبس في صحيح أبي مريم عن أبي جعفر عليه السّلام في من أقرت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالزني أربع مرات، قال عليه السّلام: «فأمر بها فحبست و كانت حاملا فتربص بها حتي وضعت، ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة … » «1».

لكن لم يتضح كونه حبسا قهريا، بل لعله برضا الجانية من أجل إقرارها و استسلامها لإقامة الحدّ في الوقت المناسب.

و من ثم يشكل الحبس في ذلك أيضا قسرا علي الجاني لو لم يرض به.

غاية الأمر أنه يجب علي من له إقامة الحدّ التوثق علي الحدّ لو تعذر التعجيل به،

و منع الجاني من الفرار لو حاوله، و نحو ذلك من ما يقتضيه الحفاظ علي الحدّ من دون تعد عليه.

و لو انحصر الأمر بالحبس لم يبعد جوازه، عملا بالمرتكزات، خصوصا إذا كان تعذر التوثق لتقصير من الجاني. لكن لا بدّ من الاقتصار علي أقصر مدة للتأخير، و أقل مراتب الضرر و التحجير علي الجاني، عملا في ما زاد علي مقدار الضرورة بالقاعدة المقتضية للمنع. هذا في الحدود.

و أما القصاص فالأمر فيه كذلك بمقتضي القاعدة، فإن استحقاق ولي الدم للقصاص لا يسوغ السجن الذي هو عقوبة زائدة، بل يتعين عليه التعجيل به، أو إطلاق سراح الجاني علي أن يستوفي القصاص منه عند إرادة تنفيذه. إلا مع رضا الجاني بالحبس من أجل التأخير، رغبة في الحياة، أو أملا

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب حد الزني حديث: 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 86

للعفو. و لو تعذر التعجيل بالقصاص لم يكن لولي الدم إلا التوثق.

نعم، في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام، فإن جاء أولياء المقتول بثبت، و إلا خلّي سبيله» «1». و يتعين العمل به في مورده.

و ربما يتعدي عنه لما نحن فيه، فإنه إذا جاز الحبس في المدة المذكورة مع احتمال الجريمة فجوازه مع ثبوت الجريمة و تعذر استيفاء الحق مقتضي الأولوية العرفية. و إن لم يخل الأمر عن إشكال.

و لو فرض البناء علي ذلك فاللازم الاقتصار علي مقدار الضرورة في التحجير. و أما المدة فلا تتجاوز الستة أيام، و يجب الاقتصار علي أقل منها مع الإمكان.

هذا كله في تأخير القصاص بوجه عامّ مع

استحقاقه.

و أما في مورد السؤال، و هو امتناع أولياء الدم من تسديد فاضل الدية، فالأمر أظهر. إذ لا حق لهم في القصاص حينئذ، و يتعين انتقالهم للدية، و مع عدم استحقاقهم القصاص لا وجه لتوهم جواز الحبس من أجله.

ب.. عدم تأمين حصة الأولياء الصغار للمقتول من طرف الأولياء الذين يريدون القصاص.

ج: لا مجال للحبس في هذا الحال، لما سبق من أنه تعدّ عليه بلا حق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 12 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 87

نعم، إذا رأي وليّ الصغار عدم الحاجة لإلزامهم بتأمين حصتهم، لعجز القاتل عن تسليم الدية لهم أيضا، جاز له تسليطهم علي القصاص بأمل تجدد القدرة لهم علي دفع حصة الصغار من الدية بعد ذلك.

و كذا الحال لو علم من الصغار الرضا بالقصاص و عدم اختيار الدية عند بلوغهم … إلي غير ذلك مما يرجع إلي تشخيص الولي لمصلحة الصغار في التسليط علي القصاص.

ج.. إذا عفا بعض أولياء المقتول و طلب البعض الآخر القصاص، و لم يؤد حصة الذين طلبوا العفو.

ج: لا مجال للحبس، لنظير ما تقدم في جواب الفقرة السابقة.

د.. إذا لم يتم معرفة أولياء المقتول، أو لم يمكن الوصول إليهم، و حكم الحاكم بثبوت الدية، و عجز المحكوم عليه عن تسديد الدية.

ج: تؤدي دية العمد في سنة من حين ثبوتها. لصحيح أبي ولاد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كان علي عليه السّلام يقول: تستأدي دية الخطأ في ثلاث سنين. و تستأدي دية العمد في سنة» «1». و المنصرف منه أن مبدأ السنة من حين ثبوت الدية، و هو حين مطالبة الولي بها و انتقاله إليها.

و حينئذ لا مجال لحبسه قبل إكمال السنة، لعدم تعديه في التأخير. أما

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 4 من أبواب ديات النفس حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 88

بعدها فهو كسائر المديونين الذين يمتنعون عن أداء الدين أو يعجزون عنه.

و يشاركهم في الحكم.

ه-.. إذا تمت المصالحة علي الدية، و عجز الجاني من تسديدها.

ج: لا مجال لحبسه بعد فرض عجزه، كسائر المديونين العاجزين عن أداء دينهم، نظير ما سبق.

و.. إذا انقطع أولياء الدم عن مراجعة المحكمة لحسم القضية.

ج: لا مجال لحبسه. لأن وجوب حفظ الحقوق لأهلها علي الحاكم إنما يكون مع مطالبتهم بها، أما مع عدم مطالبتهم بها فليس عليه- بل لا يجوز له- أن يتبرع بحبس من عليه الحق من أجل حفظ حقهم. و كذا لو طالبوا من أول الأمر ثم انقطعوا عن المطالبة.

أما مطالبتهم بالحقّ من أجل حبس الجاني و إتعابه و إيذائه من دون إنهاء للقضية فهو أمر لا يستحقونه، ليستجيب لهم الحاكم فيه.

ز.. إذا فقدت الآلات اللازمة للإجراء الدقيق للحكم، و استنكف أولياء الدم أو أهل الخبرة من تنفيذ الحكم.

ج: إذا كان عدم التنفيذ لأمر راجع لأولياء الدم فلا وجه للحبس، إذ لا معني لمطالبتهم بما لا يريدون أن يستوفوه، فضلا عن أن يطالبوا بالحبس من أجله.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 89

و إن لم يكن لأمر راجع لهم- كعدم وجود الآلات الصالحة للتنفيذ- فيجري فيه ما سبق في الجواب عن أصل السؤال. فليلحظ.

ح.. في الحالة المتقدمة إذا لم يتمكن المحكوم عليه من إرضاء المجني عليه، أو لم يكن لديه المال الكافي لإرضائه.

ج: إذا لم يتمكن من إرضائه كان للمجني عليه التعجيل بالقصاص، و إذا لم يعجّل به فلا حقّ له في حبس الجاني.

نعم، لو رضي الجاني بالحبس بأمل إقناع المجني عليه و تسوية الحال معه فلا إشكال، كما سبق في الجواب عن أصل السؤال.

2.. إذا كان الجواب بالنفي في الفروض السابقة، فهل يجوز للحاكم إطلاق سراحه بدون قيد أو شرط؟ أو يجب أخذ الضمان عليه؟

ج: يجب عليه إطلاق سراحه بدون قيد أو شرط.

نعم، إن أمكن التوثق فقد يري الحاكم الصلاح فيه، دفعا للمشاكل.

لكن لا علي أن يبلغ مرتبة التضييق علي الجاني، لأن ذلك تعدّ عليه، مناف لقاعدة سلطنته علي نفسه.

نعم، في صحيح أبي ولاد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قتل و له أولاد صغار و كبار، أ رأيت إن عفا الأولاد الكبار؟ قال: فقال: لا يقتل. و يجوز عفو الأولاد الكبار في حصصهم، فإذا كبر الصغار كان لهم

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 90

أن يطلبوا حصصهم من الدية» «1».

و في موثق إسحاق بن عمار عنه عن أبيه عليهما السّلام: «إن عليا عليه السّلام قال:

انتظروا بالصغار الذين قتل أبوهم أن يكبروا، فإذا بلغوا خيّروا، فان أحبّوا قتلوا، أو عفوا، أو صالحوا» 2.

و قد يستظهر من هذين الخبرين المفروغية عن قدرة الصغار علي تحصيل حقهم من القصاص أو الدية عند ما يكبرون، و ذلك لا يكون إلا بالتوثق من الجاني، و منعه من ما يعتصم به منهم، أو يبعد به عنهم.

لكنه يندفع بأن مجرد الحكم باستحقاق الشخص لشي ء لا يشعر بقدرته علي تحصيل ذلك الشي ء، فضلا عن أن يكون ظاهرا في المفروغية عنه.

بل كيف يمكن القول بجواز حبس الجاني هذه المدة الطويلة من أجل تمكين الصغار منه لو أرادوا القصاص أو الدية؟!

غاية الأمر أن اللازم علي وليّ الأمر محاولة تمكينهم منه عند مطالبتهم بحقهم لو

تيسر له ذلك. و مع خوف ضياع حقهم قد يري وليهم المصلحة في حسم المشكلة باختيار القصاص أو الدية، حسبما يراه الأصلح لهم.

و تقدم في جواب السؤال الخامس و العشرين ما ينفع في المقام.

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 53 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1، 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 91

س 28

أ.. إذا طلب أولياء الدم مبلغا زائدا علي الدية بعنوان المصالحة و لم يتيسر للقاتل دفعه

، فهل يمكن للمحكمة الشرعية تحديد فترة معينة لإجراء القصاص من قبل أولياء الدم، فإذا انقضت المهلة المذكورة يطلق سراح القاتل؟

ج: مما سبق يتضح أنه يحق لأولياء الدم التعجيل بالقصاص، فإن لم يعجّلوا به لم يستحقوا حبس القاتل، إلا إذا رضي بذلك دفعا للقصاص بأمل تسوية الأمر مع أولياء المقتول، فحينئذ يجوز الحبس ما دام راضيا به، و لا حدّ لذلك.

نعم، لما كان الحبس يكلف الدولة فلها أن تشترط علي أولياء الدم أمدا معينا حسبما تراه صلاحا.

ب.. فإذا جاز إطلاق سراحه، فهل يطلق سراحه بضمان أو بدونه؟

ج: من ما سبق يتضح أنه إن لم يعجل أولياء الدم بالقصاص يطلق سراح القاتل من دون قيد و لا شرط، و أن التوثق لو رآه الحاكم صلاحا لا بد أن يكون بنحو لا يقتضي التضييق عليه.

و قد تقدم في جواب فقرة (2) من السؤال السابع و العشرين ما ينفع في المقام.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 92

ج.. إذا كان للمقتول ورثة كثيرون فيهم البالغ و القاصر

، فإذا كان البالغون يريدون استيفاء القصاص، و لا يستطيعون أداء حق الصغار، فهل يمكن حبس القاتل إلي حين بلوغ الصغار، و إن كانت المدة طويلة؟

ج: لا مجال لذلك، كما يظهر من ما سبق في جواب السؤال السابع و العشرين بفقراته المختلفة.

د.. و إذا كان ذلك جائزا فما يقال جوابا عن شبهة أن ذلك من مصاديق تحميل جريمتين علي المجرم من أجل جريمة واحدة.

ج: الحبس في المقام ليس عقوبة، ليتوجه الإشكال المذكور. بل هو من أجل التحفظ علي الحق، نظير ما ورد من حبس النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم في تهمة القتل ستة أيام، كما سبق.

نعم، التحفظ بذلك لما كان منافيا لقاعدة السلطنة علي النفس في حقه احتاج إلي دليل، و مع عدمه يكون تعديا عليه محرما.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 93

س 29 بالنسبة للقسامة، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل توجب القسامة في الجناية العمدية القصاص؟

ج: نعم توجب القسامة القصاص. لإطلاق نصوصها، كصحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إن اللّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أن البينة علي المدعي و اليمين علي المدعي عليه، و حكم في دمائكم أن البينة علي المدعي عليه، و اليمين علي من ادعي، لئلا يبطل دم امرئ مسلم» «1».

و موثق زرارة عنه عليه السّلام: «قال: إنما جعلت القسامة ليغلظ بها في الرجل المعروف بالشر المتهم، فإن شهدوا عليه جازت شهادتهم» 2.

و خصوص جملة منها، كمعتبر ابن سنان: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام:

إنما وضعت القسامة لعلة الحوط يحتاط علي الناس، لكي إذا رأي الفاجر عدوه فرّ منه مخافة القصاص» 3.

و صحيح بريد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن القسامة. فقال:

الحقوق كلها البينة علي المدعي، و اليمين علي المدعي عليه، إلا في الدم خاصة.

فإن رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلا منهم، فقالت الأنصار: إن فلان اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم للطالبين:

______________________________

(1) 1، 2، 3 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 4، 7، 9.

مسائل

معاصرة في فقه القضاء، ص: 94

أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيده [أقده] برمته، فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة خمسين رجلا أقيده برمته، فقالوا: يا رسول اللّه: ما عندنا شاهدان من غيرنا، و إنا لنكره أن نقسم علي ما لم نره. فوداه رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم.

و قال: إنما حقن دماء المسلمين بالقسامة، لكي إذا رأي الفاسق فرصة [من عدوه] حجزه مخافة القسامة أن يقتل، فكفّ عن قتله، و إلا حلف المدعي عليه قسامة خمسين رجلا ما قتلنا و لا علمنا قاتلا، و إلا أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم إذا لم يقسم المدعون … » «1».

و قريب منه صحيح زرارة «2»، و معتبر أبي بصير 3. كما يشهد بذلك أيضا ما يأتي في نصاب القسامة.

ب.. و إذا كان الجواب بالإيجاب، فما هو نصاب القسامة المذكورة؟

ج: نصاب القسامة المذكورة خمسون رجلا في المشهور المعروف المدعي عليه الإجماع مستفيضا أو متواترا، كما في الجواهر. و يقتضيه صحيح بريد المتقدم، و صحيح زرارة و معتبر أبي بصير المتقدمة إليهما الإشارة، و ما يأتي.

نعم، ذكر ابن حمزة في الوسيلة أنه لو كان هناك شاهد واحد كفي في القسامة خمسة و عشرون. و كأنه يبتني علي قيام الشاهد الواحد مقام الخمسة و العشرين، بعد حمل كل من دليل البينة و القسامة علي الانحلال.

لكنه خال عن الشاهد. بل مخالف لظاهر الترتيب بين الشاهدين

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 3.

(2) 2، 3 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 11 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 3، 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 95

و القسامة في النصوص، و منها صحيحا بريد و زرارة المتقدمان.

و

أشكل من ذلك ما في الجواهر، حيث قال: «نعم ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحصل من خبرهم تواتر».

إذ فيه- مع ابتناءه علي جواز حكم الحاكم بعلمه، و قد سبق المنع منه-: أن التواتر إنما يحصل من الخبر الحسّي، و ظاهر نصوص القسامة أنها لا تبتني علي الحسّ، بل علي الحدس القطعي، لظهور أن خبرهم لو كان حسيا كفي شهادة اثنين منهم من دون قسم، و قد صرح في نصوص القسامة- و منها ما تقدم- أنه إنما يحتاج لها مع فقد الشاهدين.

بل هو كالصريح من قول الأنصار في صحيح بريد المتقدم: «و إنا لنكره أن نقسم علي ما لم نره»، و قريب منه ما في صحيح زرارة المشار إليه آنفا و غيره مما تضمن قصة الأنصاري المقتول. لظهوره في المفروغية عن أن المطلوب منهم القسم عن حدس من دون رؤية.

و كذا قول الصادق عليه السّلام في صحيح زرارة: «إنما جعلت القسامة احتياطا للناس لكيما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلا أو يغتال رجلا حيث لا يراه أحد خاف ذلك فامتنع من القتل» «1»، و نحوه أو عينه ما في صحيحه الآخر «2». إذ هو صريح في أن القسامة تكون من دون مشاهدة للقتل.

هذا كله في القتل العمدي الذي هو محل الكلام. و أما القتل خطأ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 10 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 96

فنصاب القسامة فيه خمسة و عشرون، كما صرح به جماعة، و في الجواهر: «بل هو المشهور كما اعترف به الفاضل»، و نسبه في

الغنية لرواية الأصحاب، مشعرا بإجماعهم عليه، بل هو صريح الشيخ في الخلاف.

لصحيح عبد اللّه بن سنان: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: في القسامة خمسون رجلا في العمد، و في الخطأ خمسة و عشرون رجلا. و عليهم أن يحلفوا» «1».

و صحيح ابن فضال و يونس عن الرضا عليه السّلام، و خبر أبي عمرو المتطبب فيما عرضه علي أبي عبد اللّه عليه السّلام من فتاوي أمير المؤمنين عليه السّلام في الديات: «و القسامة جعل في النفس علي العمد خمسين رجلا، و جعل في النفس علي الخطأ خمسة و عشرين رجلا، و علي ما بلغت ديته في الجروح [الجوارح. يب] ألف دينار ستة نفر، و ما كان دون ذلك فحسابه [فبحسابه.

كافي، تهذيب] من ستة نفر. و القسامة في النفس و السمع و البصر و العقل و الصوت- من الغنن و البحح- و نقص اليدين و الرجلين. فهذه ستة أجزاء الرجل» 2.

و بذلك يخرج عن ما قد يظهر من إطلاق بعض النصوص من أنها خمسون في العمد و الخطأ معا.

و لعل ما في المقنعة و المبسوط و المراسم من إطلاق أن القسامة خمسون محمول علي العمد. أما لو أريد به العموم للخطأ- كما صرح به في اللمعة و نسبه في الجواهر للعلامة و ولده و الشهيدين، بل في الروضة أنه الأشهر-

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 11 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 1، 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 97

فهو محجوج بالنصوص المتقدمة بعد اشتمالها علي ما هو معتبر سندا، و بعد عمل الأصحاب بها.

و مجرد كونه أوثق في إثبات الحق لا ينهض بالخروج عنها، كما لعله ظاهر.

بقي في المقام أمور تتعلق

بالقسامة قد تنفع في المقام:

الأول: من ما سبق في حديث قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام يتضح موارد القسامة، فإن صدره و إن تضمن ثبوتها في النفس، و في ما بلغت ديته من الجوارح ألف دينار، إلا أن مقتضي الحصر في آخره بالنفس و بالجوارح الستة عدم ثبوتها في ما عداها و إن بلغت ديته ألف دينار، كذهاب الشمّ و النطق، و العجز عن الجماع. و بذلك يخرج عن الإطلاق المتقدم في الصدر.

لكن أطلق الأصحاب ثبوتها في كل ما كان ديته ألف دينار. بل صرح في الخلاف بثبوتها في ذهاب الشّم، و في المقنعة بثبوتها في ما دون النفس بحساب الدية. و لا يتضح وجهه بعد ما سبق. و حمل الذيل علي مجرد التمثيل من دون حصر، مخالف للظاهر جدا. فلا مخرج عن ما ذكرنا.

الثاني: يتضح من الحديث المذكور نصاب القسامة في غير النفس، و أنه فيما بلغت ديته ألف دينار ستة نفر، و فيما نقص منه بالنسبة. و هو الذي صرح به في النهاية و الخلاف، و نسب لأتباع الشيخ.

قال في الجواهر: «بل قيل إنه الأشهر، بل في كشف اللثام و غيره أنه المشهور، بل عن الخلاف و المبسوط ظاهر الإجماع، بل عن الغنية الإجماع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 98

عليه صريحا».

لكن مقتضي ما تقدم من المقنعة أن ما كان ديته دية النفس فنصاب القسامة فيه خمسون أيضا.

و هو المحكي عن كتاب النساء للمفيد و عن سلار و ابن ادريس، و ربما استفيد من كل من أطلق أن نصاب القسامة خمسون.

و كيف كان فهو مخالف للحديث المتقدم، المروي بطرق متعددة، منها ما هو معتبر في نفسه، و الذي عمل به من عرفت. و من ثم

لا مجال للخروج عنه.

الثالث: ذكر الأصحاب رضي اللّه عنهم إن القسامة إن نقصت عن النصاب ضوعفت عليهم الأيمان حتي يكملوا النصاب. بل قد يظهر من بعض عباراتهم- كما في الشرائع- أن المعيار في النصاب بالأصل هو عدد الأيمان، لا عدد الحالفين.

و قد يستدل علي ذلك بوجوه..

أولها: أن ذلك هو المفهوم من نصوص القسامة، و أن ذكر عدد الحالفين من أجل عدد الأيمان. لكنه كما تري مخالف لظاهر ذكر عدد النفر في النصوص جدا.

ثانيها: إلغاء خصوصية عدد النفر، لأن المناط عدد اليمين. و فيه: أنه تحكم لا شاهد له، و لا سيما و أن تعدد اليمين بتعدد الحالفين أوثق من تعدده

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 99

من حالف واحد. بل كلما كثر عدد المخبرين- و لو عن حدس- كان ثبوت المخبر عنه أقرب، فضلا عما إذا حلفوا.

ثالثها: قوله في حديث قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ما سبق من حديث القسامة و أنها في الجوارح ستة نفر: «تفسير ذلك: إذا أصيب الرجل من هذه الأجزاء الستة [و] قيس ذلك، فإن كان سدس بصره أو سمعه أو كلامه أو غير ذلك حلف هو وحده، و إن كان ثلث بصره حلف هو و حلف معه واحد … و إن كان بصره كله حلف هو و حلف معه خمسة نفر.

و كذلك القسامة في الجروح كلها. فإن لم يكن للمصاب من يحلف معه ضوعفت عليه الأيمان. فإن كان سدس بصره حلف مرة واحدة، و إن كان الثلث حلف مرتين … و إن كان كله حلف ستّ مرات … ».

و هو و إن اختص بالقسامة في الجوارح، إلا أن التعدي للقسامة في النفس قريب جدا، لأنها ذكرت في الحديث في مساق

واحد، فيقرب كشفه عن أن معيار القسامة و ملاكها في الجميع هو عدد الأيمان، لا عدد الحالفين.

و فيه- بعد تسليم ذلك-: أن الظاهر كون التفسير المذكور خارجا من الحديث، قد ألحقه به بعض رجال السند. و استظهر في الجواهر و غيره أنه من الكليني. و إن كان هو لا يناسب ذكر الشيخ له في التهذيب مع روايته للحديث من غير طريق الكليني. إلا أن يكون قد أخذه من الكليني استحسانا له. و كيف كان فمن القريب خروج التفسير المذكور عن الحديث، لاختلاف أسلوبه عنه.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 100

بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد ملاحظة أن الكليني «1» و الشيخ في موضع من التهذيب «2» و إن ذكرا هذه الفقرة عند ذكر قطعة من الحديث تتعلق بالقسامة، إلا أن الصدوق و الشيخ قد ذكرا الحديث بتمامه في الفقيه «3» و موضع آخر من التهذيب «4» خاليا عنها.

نعم، صرح في الحديث بعد ذلك- بفاصل كثير- بالاكتفاء بمضاعفة اليمين في ذهاب بصر العين أو نقصه، ثم ألحق به السمع «5».

لكن يتعين الاقتصار علي مورده، و هو تحديد النقص الحاصل من الجناية بعد فرض تحققها من الجاني و المفروغية عن ذلك، دون ما نحن فيه من الشك في أصل قيام المدعي عليه بالجناية، فضلا عن التعدي لسائر موارد القسامة، حتي النفس، خصوصا مع دعوي الجناية العمدية التي فيها القصاص.

رابعها: صحيح مسعدة بن زياد عن جعفر عليه السّلام: «قال: كان أبي رضي اللّه عنه إذا لم يقم القوم المدعون البينة علي قتل قتيلهم، و لم يقسموا بأن المتهمين قتلوه، حلّف المتهمين بالقتل خمسين يمينا باللّه ما قتلناه و لا علمنا له قاتلا، ثم يؤدي الدية إلي أولياء

القتيل. ذلك إذا قتل في حيّ واحد، فأما إذا قتل في

______________________________

(1) الكافي ج: 7 ص: 362.

(2) التهذيب ج: 10 ص: 169.

(3) الفقيه ج: 4 ص: 54.

(4) التهذيب ج: 10 ص: 295.

(5) الفقيه ج: 4 ص: 56، و التهذيب ج: 10 ص: 297، و روي الفقرة المذكورة في الوسائل ج: 19 باب: 12 من أبواب ديات المنافع حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 101

عسكر أو سوق مدينة فديته تدفع إلي أوليائه من بيت المال» «1».

و مقتضي إطلاقه الاكتفاء بخمسين يمينا، و لو بمضاعفة اليمين علي أقل من خمسين رجلا.

و فيه.. أولا: أنه وارد في يمين المدعي عليهم، لدفع الدية عنهم، لا في يمين المدعين لإثبات قيام المدعي عليهم بالجناية من أجل استحقاق القصاص أو الدية عليهم، الذي هو محل الكلام. و التخفيف في نفي الدعوي المطابق للأصل لا يستلزم التخفيف في إثبات الدعوي علي خلاف الأصل، خصوصا دعوي القتل و ما تستلزمه من قسوة العقوبة.

و ثانيا: أنه كما أطلق في الصحيح المذكور الاكتفاء بخمسين يمينا من المدعي عليهم صرح في نصوص أخر بتفسير قسامة المدعي عليهم بخمسين رجلا، كما تقدم في صحيح بريد. و نحوه قوله عليه السّلام في معتبر أبي بصير: «و إن لم يقسموا فإن علي المدعي عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا و لا علمنا له قاتلا … » «2».

و قريب منه قوله عليه السّلام في خبر علي بن الفضل: «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم حلفوا جميعا ما قتلوه و لا يعلمون له قاتلا، فإن أبوا أن يحلفوا أغرموا الدية … » «3».

و الظاهر أن تنزيل إطلاق صحيح مسعدة علي النصوص المذكورة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من

أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 10 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 102

بحمل الخمسين يمينا علي ما يكون من خمسين رجلا أقرب عرفا من تنزيل تلك النصوص علي صحيح مسعدة بإلغاء خصوصية عدد الحالفين، فيتعين في مقام الجمع بين النصوص. و لا أقل من التوقف و الرجوع للأصل المقتضي لعدم الاكتفاء بتضعيف اليمين.

و من ثم لا مجال للعمل بإطلاق صحيح مسعدة في مورده- و هو قسامة المدعي عليهم- فضلا عن التعدي منه لقسامة المدعين.

هذا و بعض مشايخنا قدس سرّه في مباني تكملة المنهاج بعد أن استشكل في الاكتفاء بمضاعفة اليمين، قال: «نعم يؤكد ذلك ما ورد في غير واحد من الروايات من أن القسامة إنما جعلت احتياطا للناس، لئلا يغتال الفاسق رجلا فيقتله، حيث لا يراه أحد، فإذا كانت علة جعل القسامة ذلك فكيف يمكن تعليق القود علي حلف خمسين رجلا؟ فإنه أمر لا يتحقق إلا نادرا فكيف يمكن أن يكون ذلك موجبا لخوف الفاسق من الاغتيال؟!».

و يشكل: بأنه بعد أن كانت شهادة القسامة عن حدس للقرائن المحيطة بالجناية، فكما يمكن حصول القناعة منها للقليل يمكن حصولها للكثير، و هو كاف في خوف الفاسق بنحو يمنعه من القيام بالجناية تحفظا علي نفسه. و إلا فليس اهتمام الشارع الأقدس بالتحفظ من وقوع الجناية بنحو يكشف عن قلة اهتمامه بالمتهم بها، بحيث يحرز اكتفاؤه في ثبوت التهمة عليه بتضعيف اليمين، مع ظهور النصوص في خلاف ذلك، خصوصا إذا كانت الجناية موجبة للقصاص و

هدر الدم.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 103

فلم يبق في المقام إلا الإجماع المدعي في الخلاف علي الاكتفاء بخمسين يمينا من ولي الدم، و ما في الغنية من الإجماع علي القسامة بالتفصيل الذي ذكره الأصحاب، المؤيدان بذكر غير واحد لذلك بنحو يظهر في المفروغية عنه، كما يناسبه التفسير المتقدم لحديث قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام، و عدم ظهور الخلاف منهم في ذلك.

و من ثم لم يستبعد بعض مشايخنا قدس سرّه في مباني تكملة المنهاج تحقق الإجماع الحجة، مع ما هو المعلوم من سليقته من عدم تسرّعه في التعويل علي الإجماع و تشكيكه في حصوله بنحو ينهض بالحجية.

لكن يصعب الركون إليه في مثل هذه المسألة التي هي ليست موردا للابتلاء في عصور الأئمة عليهم السّلام و ما قاربها، و ليس الكلام فيها إلا علميا محضا، حيث لا يبعد ابتناؤه علي الاجتهاد منهم، و تخيل أن اعتبار تعدد الحالفين من أجل تعدد اليمين، و لا سيما مع ثبوته في الجملة في بعض الموارد، كما تقدم في حديث قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و من ثم يشكل الخروج عن ظهور نصوص القسامة علي كثرتها في اعتبار تعدد الحالفين من دون إشارة في شي ء منها للاكتفاء بتضعيف اليمين.

الرابع: ذكر الأصحاب رضوان اللّه عليهم أن القسامة تختص باللوث، و هو ما إذا كان هناك أمارة علي القتل في شخص خاص أو جماعة معينة، كوجود القتيل في حيّ خاص حيث يناسب ذلك كون القاتل منهم،

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 104

أو وجود شخص عند القتيل ملطخ بالدم، أو حامل لسلاح ملطخ به، أو نحو ذلك.

قال في الجواهر: «لا ريب في اعتباره عندنا فيها، من غير فرق بين النفس و الأعضاء، و إن

حكي عن الشيخ في المبسوط عدم اعتباره في الثاني، لكن لم نتحققه … بل عن السرائر: أن عليه في النفس إجماع المسلمين، و في الأعضاء إجماعنا … و في الغنية: و القسامة لا تكون إلا مع التهمة بأمارات ظاهرة. يدل علي ذلك إجماع الطائفة … ».

و لا يخفي أن ذلك و إن كان مناسبا لمورد تشريع القسامة في نصوصها المتقدمة، كصحيح بريد، و صحيح زرارة و معتبر أبي بصير المشار إليهما، و غيرها.

إلا أنه لا يكفي في التقييد بعد إطلاق بعض نصوصها، كموثق أبي بصير المتقدم و غيره من ما يأتي الكلام فيه.

و قد استدل بعض مشايخنا قدس سرّه في مباني تكملة المنهاج علي اعتبار اللوث بوجهين:

الأول: ما تضمنه غير واحد من نصوص القسامة- و منها موثق زرارة و معتبر ابن سنان المتقدمان- من تعليل تشريع القسامة بحجز الفاجر و المعروف بالشر المتهم عن القتل، حيث يدل ذلك علي عدم تشريعها إلا مع كون المتهم فاسقا معروفا بالشرّ، و هو معني اللوث.

و فيه.. أولا: أنه كما ورد التعليل بذلك ورد التعليل بأنه لو لا ذلك

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 105

لقتل الناس بعضهم بعضا ثم لم يكن شي ء، كما في صحيحي الحلبي و عبد اللّه ابن سنان «1». و لا تنافي بين التعليلين، بنحو يقتضي حمل الثاني علي الأول.

و ثانيا: أن مجرد كون الرجل فاجرا معروفا بالشرّ لا يكفي في اللوث، بل لا بد فيه من أمارة علي تورطه بالجريمة، مثل ما سبق.

و ثالثا: أن التعليل بمنع الفاجر المعروف بالشرّ عن القتل لا يقتضي اختصاص تشريعها به أو بما يشبهه، نظير ما لو قيل: إنما جعلت البينة حجة ليخفي الفاسق فسقه، فإنه لا يقتضي اختصاص

حجية البينة بالفاسق، أو بالمحرمات.

الثاني: ما تضمنه غير واحد من النصوص- و منها ما تقدم- من أن القسامة إنما جعلت للاحتياط علي الناس. إذ لا احتياط مع عمومها لغير صورة اللوث، حيث يمكن للفاسق الفاجر أن يدعي القتل علي شخص من دون لوث، ثم يأتي بالقسامة، فيذهب دم المسلم هدرا.

و فيه: أنه لا يسهل تحصيل القسامة الكاذبة. و لو فرض تحصيلها فهي كما توجب هدر الدم ظلما بدون لوث توجب هدره ظلما مع اللوث.

هذا كله مع أن النصوص المشتملة علي التعليلين المذكورين و غيرهما ظاهرة في بيان الفائدة و الحكمة، لا العلة التي يدور الحكم مدارها وجودا و عدما لتنهض بتقييد الإطلاق.

و لعل الأولي الاستدلال علي اعتبار اللوث في القسامة بقوله عليه السّلام في

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعويا لقتل و ما يثبت به حديث: 8، 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 106

ذيل صحيح مسعدة بن زياد المتقدم بعد ذكر القسامة: «ذلك إذا قتل في حيّ واحد. فأما إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة فديته تدفع إلي أوليائه من بيت المال». لقرب كون التقييد المذكور بلحاظ أن القتل في حيّ واحد موجب للظن بأن القاتل منهم، فتشرع القسامة، و لا تدفع دية القتيل من بيت المال إلا حين تتعذر القسامة و يبرأ المتهمون بالقتل منه بيمينهم، بخلاف ما لو كان القتل في عسكر أو سوق، حيث لا منشأ غالبا لاتهام جماعة خاصة به، و لو فرض اتهام ولي الدم لشخص خاص أو جماعة خاصة به كان خاليا عن الأمارة و اللوث، فلا تشرع معه القسامة، بل تؤدي الدية من بيت المال رأسا.

و مثله في ذلك قوله عليه السّلام في معتبر

أبي بصير: «إن اللّه عز و جل حكم في الدماء ما لم يحكم في شي ء من حقوق الناس، لتعظيمه الدماء. لو أن رجلا ادعي علي رجل عشرة آلاف درهم أو أقل من ذلك أو أكثر لم يكن اليمين علي المدعي، و كانت اليمين علي المدعي عليه. فإذا ادعي الرجل علي القوم أنهم قتلوا كانت اليمين المدعي الدم قبل المدعي عليهم، فعلي المدعي أن يجي ء بخمسين يحلفون … و إن كان بأرض فلاة أديت ديته من بيت المال، فإن أمير المؤمنين عليه السّلام كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم» «1».

لظهور ذيله في عدم شرعية القسامة في قتيل الفلاة لو اتهم ولي الدم شخصا أو جماعة بقتله، و أن ما في صدره من أن الحكم في الدماء بغير الحكم في الأموال لا يشمله. و الظاهر أن منشأ ذلك عدم اللوث.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 10 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 107

علي أن ثبوت الإطلاق لدليل القسامة بنحو يشمل عدم اللوث لا يخلو عن إشكال

أما معتبر أبي بصير هذا فظاهر بعد استثناء قتيل الفلاة.

و بعبارة أخري: قوله عليه السّلام أولا: «إن اللّه عز و جل حكم في الدماء ما لم يحكم في شي ء من حقوق الناس» إنما يقتضي اختلاف حكم الدماء عن غيرها من الحقوق، و أن البينة فيها علي المدعي في الجملة، في مقابل عدم ثبوتها عليه كلية في بقية الحقوق، لأن نقيض السلب الكلي هو الثبوت في الجملة، لا مطلقا.

و قوله عليه السّلام بعد ذلك: «فإذا ادعي الرجل علي القوم أنهم قتلوا كانت اليمين لمدعي الدم … » و إن كان له إطلاق يشمل

صورة عدم اللوث، إلا أن استثناء قتيل الفلاة في ذيله مانع من الإطلاق المذكور.

و كذا قوله عليه السّلام في صحيح بريد المتقدم: «الحقوق كلها البينة علي المدعي و اليمين علي المدعي عليه، إلا في الدم خاصة، فإن رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار … »

فإن استثناء الدم إنما يقتضي كونه علي خلاف الحقوق في جعل اليمين علي المدعي في الجملة، لا مطلقا، لأن الاستثناء من السلب الكلي إنما يقتضي الإيجاب في الجملة لا مطلقا. و لا سيما مع تعقيب الاستثناء المذكور و شرحه بقضية خيبر التي هي في مورد اللوث.

فلم يبق إلا قوله عليه السّلام في موثق أبي بصير المتقدم: «إن اللّه حكم في

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 108

دمائكم بغير ما حكم في أموالكم، حكم في أموالكم أن البينة علي المدعي، و اليمين علي المدعي عليه، و حكم في دمائكم أن البينة علي المدعي عليه، و اليمين علي من ادعي، لئلا يبطل دم امرئ مسلم» «1». فإن مقتضي إطلاقه قبول يمين المدعي في الدماء مطلقا و لو مع عدم اللوث.

إلا أنه حيث لا إشكال في قبول بينة المدعي في الدم و تكليف المدعي عليه باليمين مع عدمها، يتعين حمل الكلام المذكور علي تشريع قبول اليمين من المدعي في الجملة في مقابل السلب الكلي في الأموال، نظير ما تقدم في الحديثين السابقين، أو إجماله من هذه الجهة، فلا ينهض بإطلاق قبول يمين المدعي مع عدم اللوث.

و لا سيما مع كون اليمين الذي يكلف به المدعي في الدم غير اليمين الذي يكلف به المدعي عليه في الأموال، للاكتفاء في الثاني بيمينه من غير تغليظ و اعتبار قسامة

الخمسين في الأول. حيث يناسب ذلك كونه عليه السّلام في مقام الإشارة بكلامه هذا إلي أمر معهود، من دون أن يكون إطلاقه واردا لبيانه.

و من ثمّ يصعب جدا تحصيل إطلاق يقضي بتشريع القسامة مع عدم اللوث، ليحتاج للخروج عنه لدليل

و إن كان الظاهر وفاء ما سبق في صحيح مسعدة و معتبر أبي بصير بذلك، كما تقدم. خصوصا مع اعتضادهما بما تضمنته النصوص من أن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 109

أصل تشريع القسامة في قضية قتل الأنصاري بخيبر، و أن السنة إنما جرت بها في تلك الواقعة، و هي من موارد اللوث قطعا.

و لعله لذا كان المفروغ عنه بين الأصحاب بل المسلمين عموما اختصاصها باللوث، حيث يقرب جدا ابتناء ذلك منهم علي فهمهم له من مساق أدلة تشريعها.

س 30 في حالة العلم الإجمالي بوجود القاتل بين أفراد محصورين معينين، يرجي الجواب عن ما يلي:

أ.. هل يمكن للقاضي الرجوع للقرعة في تعيين القاتل؟

ج: لا مجال للقرعة في المقام. لورود نصوصها في موارد خاصة ليس منها المقام.

نعم، في معتبر محمد بن حكيم: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن شي ء، فقال لي: كل مجهول ففيه القرعة. قلت له: إن القرعة تخطئ و تصيب، قال:

كل ما حكم اللّه به فليس بمخطئ» «1».

لكن عمومه لكل مجهول مستلزم لكثرة التخصيص فيه، حيث يلزم الخروج عنه في جميع موارد الأصول الشرعية، لأنها أخص منه، و في الشبهات الحكمية من موارد الأصول العقلية، للتسالم علي عدم الرجوع إليها في الشبهات الحكمية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 11.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 110

و في كثير من موارد الاشتباه الأخر، كاشتباه درهم الودعي بين شخصين، و ميراث الغرقي و المهدوم عليهم، و الخنثي

المشكل، و اشتباه القبلة، و الثوبين، و الإنائين المشتبهين، و اشتباه القتيل بين أهل الحي و القرية، و غير ذلك مما فيه الدليل الخاص علي عدم الرجوع للقرعة. و ذلك يوجب جريان حكم الإجمال علي العموم المذكور.

و لذا لم يكن بناء الأصحاب علي الرجوع للقرعة من أجل العموم المذكور، بل لا بد من دليل خاص فيه.

و قد أطلنا الكلام في أدلة القرعة في مباحث العلم الإجمالي من كتابنا المحكم في أصول الفقه «1». فراجع.

ب.. إذا لم يمكن ذلك و تعين أخذ الدية، فعلي من تكون الدية؟ و كيف يتم أخذها؟

ج: لا يبعد توزيع الدية عليهم، كما يستفاد من النصوص الكثيرة المتضمنة ضمان القبيلة أو أهل القرية أو الدار القتيل الذي يوجد فيها، التي يأتي بعضها في جواب السؤال الخامس و الثلاثين.

و كذا نصوص القسامة الآتية في جواب السؤال المذكور و المتقدمة قريبا في جواب السؤال التاسع و العشرين. و هي و إن وردت لبيان كيفية ثبوت الجناية عليهم ظاهرا، و هو غير ما نحن فيه من فرض الفراغ عن ثبوتها عليهم، إلا أن ظاهرها المفروغية عن ضمانهم بمجموعهم في فرض

______________________________

(1) المحكم في أصول الفقه ج: 4 ص: 226.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 111

تحقق الجناية منهم من دون تعيين القاتل.

و من ثم لا يهم معارضتها بما يظهر منه عدم ثبوت الجناية عليهم- كالنصوص الآتية في حكم القتيل في القرية و نحوه- لأنه و إن عارضها في ثبوت الجناية عليهم ظاهرا إلا أنه لا ينافيها في المفروغية عن ثبوت الدية عليهم لو فرض قيام بعضهم بالجناية من دون تعيين.

و من هنا تنهض النصوص بمجموعها بإثبات ما ذكرنا.

س 31 إذا انحصر إثبات الجريمة بتقرير الخبراء- كخبراء بصمات الأصابع، و الطب العدلي

اشارة

- فيرجي الجواب عن ما يلي:

أ.. هل هذه الأدلة حجة شرعية معتبرة شرعا؟

ج: ليست هي حجة شرعا إذا لم توجب العلم، لعدم الدليل علي حجيتها.

و دعوي: أنه يكفي في حجيتها عموم السيرة الارتكازية علي حجية قول أهل الخبرة.

مدفوعة.. أولا: بأن المتيقن من موارد الرجوع لهم الأمور الحدسية نوعا، التي لا مسرح فيها للحسّ غالبا، دون المقام، حيث يتيسر كثيرا الوصول للواقع بالحسّ.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 112

و ثانيا: بأنه يكفي في الردع عن السيرة في المقام- لو تمت- النصوص، كصحيح هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان … » «1»، و غيره مما هو ظاهر في انحصار طرق القضاء و الحكم بالبينة و اليمين.

أما إذا أوجبت العلم لشخص الحاكم فله الحكم بموجبها، بناء علي ما هو المشهور من جواز حكم الحاكم بعلمه. و لكن سبق منا في جواب السؤال العاشر المنع من ذلك.

غاية الأمر أنها حينئذ توجب اللوث الذي هو عبارة عن وجود الأمارة الموجبة للاتهام بالقتل، فتشرع فيه القسامة، التي سبق الكلام فيها في جواب السؤال التاسع و العشرين.

نعم، لا ريب في توقف جواز الاستناد إليها في القسم علي حصول العلم منها، لحرمة الإخبار، فضلا عن القسم، بدون علم.

بل لا يبعد توقف إقامة الدعوي علي ذلك أيضا. و لا يكفي التهمة الحاصلة من الأمارات المذكورة إذا لم تبلغ مرتبة العلم من أجل طلب يمين النفي من المتهمين. لظهور أدلة القسامة نفيا و إثباتا في ترتبها علي الدعوي، الظاهرة في الإخبار المبني علي الجزم، الذي لا يجوز من دون علم.

ب.. إذا كانت حجة فهل تكون دليلا مستقلا أو هي مشروطة بشروط البينة؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 2 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي حديث: 1.

مسائل معاصرة

في فقه القضاء، ص: 113

ج: لو كانت حجة لكانت دليلا مستقلا. و لو تمّ الاستدلال عليها بالسيرة علي الرجوع لأهل الخبرة لكان الشرط فيها أمورا ثلاثة..

الأول: كون المخبر من أهل الخبرة و المعرفة، كما هو ظاهر.

الثاني: أن يكون إخباره بنحو الجزم. و لا يكفي ظنه الحاصل من المقدمات المذكورة، لعدم الدليل علي حجية ظنه المذكور. و الرجوع إليه في بعض الموارد عند تعذر العلم إنما يكون من أجل الاحتياط بعد تعذر العلم في موارد الاهتمام بتحصيل الواقع، كما في باب التداوي. بل قد يكتفي بالاحتمال احتياطا للواقع. و لا مجال لذلك في القضاء، لعدم الاهتمام فيه بإصابة الواقع، بل بمتابعة الطرق الشرعية.

الثالث: وثاقة المخبر، كما هو مقتضي السيرة في الرجوع لأهل الخبرة.

و لا وجه لاعتبار شروط البينة فيه بعد خروجه عنها. لاختصاص البينة بالخبر الحسّي.

هذا و حيث سبق المنع من حجيتها، و أنها تنفع مع حصول العلم منها للحاكم- بناء علي جواز حكمه بعلمه- أو لوليّ الدم من أجل القسامة، فلا ضابط لموارد حصول العلم منها، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص و الأحوال.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 114

س 32 ما هو حكم الشريعة الإسلامية بالنسبة إلي اعتبار المستندات التي تكون بالأجهزة الحديثة

(فاكس، فيلم، صورة، كاسيت صوت، تلكس، الاستنساخ، طابعة، سكنر كمبيوتر … )

و ما هو مدي إمكانية الاستفادة منها للإثبات؟ و أي منها يصلح مستندا للحكم؟ و أي منها يصلح للتأييد؟

ج: ليست الأمور المذكورة حجة مع عدم حصول العلم منها، لاحتمال التدليس، أو التزوير، أو الخطأ، أو غيرها. لعدم الدليل علي حجيتها حينئذ.

و أما مع حصول العلم منها، فإن كان علما شخصيا للحاكم مبتنيا علي الحدس، لقرائن خفيّة. فجواز الحكم فيه يبتني علي جواز حكم الحاكم بعلمه، الذي سبق في جواب السؤال العاشر الإشكال فيه، بل المنع

منه.

و إن كان موجبا للعلم نوعا، لكونه عرفا ملحقا بالحسّ، بحيث يصدق عرفا أن الطرف شهد أو أقرّ أو نحو هما فلا إشكال في جواز الحكم به. كما يكفي في ذلك إقرار الخصم بأن ذلك كلامه أو إقراره، لأن مقتضي الإقرار المذكور مشروعية حكم الحاكم علي طبقه، و حيث كان الحكم المذكور علي خلاف مصلحة الخصم المقرّ، كان ملزما به.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 115

س 33 الشخص الذي يجري عليه حدّ السرقة، هل يمكنه أن يطلب من الطبيب تخدير العضو المحدود علي نفقته

، حتي لا يحس بألمه؟

ج: نعم يمكنه ذلك. لإطلاق أدلة وجوب القطع بنحو يشمل هذه الحالة. و لا دليل علي المنع و لزوم الإيلام، لإمكان كون غرض الشارع الأقدس من القطع التنكيل دون الإيلام، و إن حصل معه غالبا.

نعم، لا يجب علي الطبيب الاستجابة، فضلا عن تحمّل نفقات المخدر علي حسابه، أو علي حساب بيت المال. لعدم الدليل علي ذلك بعد استلزام القطع نوعا للإيلام، بنحو لا مجال لحمل دليله علي خصوص ما لا إيلام فيه، و الأصل البراءة.

س 34 الشخص الذي عليه عقوبة القتل، هل يمكن أن يتحمل هو نفقات التخدير من أجل التقليل من الألم

. و هل هناك فرق بين قصاص الطرف و قصاص النفس؟

ج: نعم يمكنه ذلك، علي نحو ما تقدم في السؤال السابق جوابا و دليلا. و لا فرق بين قصاص الطرف و النفس، لعدم الفرق بينهما في الأدلة.

نعم، لا مجال لذلك في الرجم، لظهور بعض النصوص في ابتنائه علي الإحساس بألم العذاب، كما يناسبه ما في غير واحد من النصوص من الأمر

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 116

برميه بأحجار صغار «1».

بل في صحيح صفوان عن رجل عن أبي بصير و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: المرجوم يفرّ من الحفيرة فيطلب؟ قال: لا، و لا يعرض له، إن كان أصابه حجر واحد لم يطلب، فإن هرب قبل أن تصيبه الحجارة ردّ، حتي يصيبه ألم العذاب» «2».

و في صحيحه الآخر عن غير واحد عن أبي بصير عنه عليه السّلام: «إن كان أصابه ألم الحجارة فلا يرد، و إن لم يكن أصابه ألم الحجارة ردّ» 3.

س 35 إذا قتل شخص و وجدت جنازته في شارع أو بيت أو بستان، و لم يعرف القاتل و المقتول، فيرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل تثبت الدية؟

ج: أما بالنظر للواقع الأولي فالثابت مع العمد القصاص من القاتل أو التصالح بالدية أو بغيرها، و مع شبه العمد تثبت الدية علي القاتل، و مع الخطأ المحض تثبت الدية علي القاتل أيضا، لكن تقوم بها عنه العاقلة- و هي عشيرته- علي تفصيل مذكور في كتب الفقهاء رضي اللّه عنهم.

و أما بالنظر لمقام العمل مع فرض الجهل بالقاتل فيأتي الكلام فيه في جواب الفقرة (ب).

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 14 من أبواب حد الزني حديث: 1، 3.

(2) 2، 3 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 15 من أبواب حد الزني حديث: 3، 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 117

ب.. بناء علي ثبوت الدية، فمن يتحمل الدية؟

و لمن تصرف؟

ج: الشخص المذكور تارة: لا يحرز- و لو بالأصل- كونه ممن لا وارث له و أخري: يحرز أنه كذلك.

أما في الصورة الأولي- التي هي الغالب- فلا أثر لثبوت الدية واقعا بعد عدم الوليّ المطالب بالدم، لفرض عدم معرفة المقتول، من دون فرق بين الموارد التي يحكم فيها بأن الدية علي شخص أو جماعة مخصوصة- كما في موارد التهمة و اللوث- و الموارد التي يحكم فيها بأن الدية علي بيت المال.

أما في الموارد التي يحكم فيها بأن الدية علي شخص خاص أو جماعة مخصوصة فلأن الحكم المذكور فرع وجود وليّ يطالب بالدم، و يدعي القتل علي شخص أو جماعة، أو يتهمهم بها، و ليس من وظيفة الحاكم في حقوق الناس إقامة الدعوي بدلا عن المستحق مع الجهل به و عدم مطالبته، بل تنحصر وظيفته في سماع دعوي المدعي و النظر فيها بعد صدورها منه.

و أما في الموارد التي تكون فيها الدية علي بيت المال فلأن المتيقن من تحمّل بيت المال للدية هو أداؤها للولي المطالب

بها بعد تعذر وصوله للقاتل و أخذه الدية منه، دون ما نحن فيه من فرض الجهل بالولي و عدم مطالبته.

بل هو الظاهر من صحيح عبد اللّه بن سنان و عبد اللّه بن بكير جميعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل وجد مقتولا لا يدري من قتله. قال: إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا من بيت

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 118

مال المسلمين، و لا يبطل دم امرئ مسلم، لأن ميراثه للإمام، فكذلك تكون ديته علي الإمام … » «1».

علي أنه لو فرض تحمّل الإمام ديته مطلقا فلا يجب عليه و لا علي الحاكم الشرعي- المفروض قيامه مقامه- أداؤها مع فرض الجهل بمستحقها و تعذر إيصالها إليه.

و دعوي: أن اللازم حينئذ التصدق بها عنه، كما هو الحال في كل مال مجهول المالك.

مدفوعة: أولا: بأن أدلة مجهول المالك لا تتضمن وجوب التصدق به، بل مجرد جوازه تخلصا من تبعة حفظ المال و رعايته، مع جواز حفظه له.

و ثانيا: بأن أدلة التصدق مختصة بالأموال الخارجية العينية، دون الديون و الأموال الذمية. و لذا اخترنا الاكتفاء فيها بنية الوفاء و العزم عليه عند القدرة علي صاحبها. للنصوص الواردة في الدين الذي لا يعرف صاحبه، كموثق زرارة أو صحيحه: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يكون عليه الدّين و لا يقدر علي صاحبه، و لا علي ولي له، و لا يدري بأي أرض هو؟ قال عليه السّلام: لا جناح عليه بعد أن يعلم اللّه منه أن نيته الأداء» «2».

و غيره.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 6 من أبواب دعوي القتل حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 22 من

أبواب الدين و القرض حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 119

و ثالثا: بأنه لو فرض وجوب التصدق بالدين المجهول المالك فهو مختص بالمدين الحقيقي الذي تنشغل ذمته بالمال- كالقاتل في المقام لو لم يعرف ولي المقتول- دون الإمام الذي يكلف بأداء الدين من بيت المال- بدلا عن القاتل- من دون أن تنشغل ذمته بشي ء، و لم يثبت في حقه إلا وجوب أداء الدية للولي، و المفروض تعذره بسبب الجهل به.

و أما في الصورة الثانية- و هي صورة إحراز أن الميت لا وارث له- فوليه الإمام، و إذا تمّ قيام الحاكم الشرعي مقامه في ذلك كان له المطالبة بالدم.

و حينئذ إن علم الحاكم بقيام شخص خاص به يعرفه بشخصه أو في ضمن جماعة محصورين- كقبيلة خاصة أو أهل قرية خاصة- كان له الحكم عليه بأنه القاتل، بناء علي جواز حكم الحاكم بعلمه. و لا يمنع من ذلك كونه هو الحاكم و الخصم بعد اختلاف الجهة. لأنه ليس هو ولي الدم الخصم للقاتل، بل وليه الإمام، و هو وكيل عنه، فيطالب عنه، لا عن نفسه.

أما بناء علي ما سبق منا- في جواب السؤال العاشر- من عدم جواز حكم الحاكم بعلمه فله إقامة الدعوي عليه بدلا عن الإمام عليه السّلام. و حينئذ يكفيه في الحكم عليه أن يأتي بالقسامة إن تيسرت له. و إن لم تتيسر له فله أن يكلفه أو يكلفهم قسامة خمسين رجلا ما قتلنا و لا علمنا له قاتلا، فان امتنعوا أدوا الدية، و إن حلفوا لم تجب عليهم الدية من أجل التهمة المذكورة. كل ذلك لنصوص القسامة التي تقدم الكلام فيها في جواب السؤال التاسع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 120

و العشرين، و

يأتي بعض الكلام فيها.

و كذا الحال لو لم يتهم الحاكم شخصا أو جماعة مخصوصين أو لم يعلم بقيامهم بالقتل، حيث لا يكون هناك مدعي عليه يطالب بالدية.

و حينئذ لا ريب في ثبوت الدية في بيت المال إذا وجد القتيل في فلاة من الأرض أو قتل بين جماعة غير محصورين، كالسوق، و العسكر، و المدن الكبيرة. للنصوص المتقدم بعضها هناك أيضا.

و عليه لا موضوع للضمان، لأن الدية ترجع للإمام، و لبيت المال، بعد فرض إحراز أن القتيل لا وارث له.

أما إذا وجد في جماعة محصورين- كحيّ خاص، أو قرية خاصة، أو قبيلة خاصة- فالأمر لا يخلو عن إشكال، لاضطراب النصوص، ككلمات بعض الأصحاب.

حيث تضمنت جملة من النصوص أن الدية تجب عليهم ما لم يثبت عدم قتلهم له.

ففي معتبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيمن يدعي علي قوم أنهم قتلوا بعد أن ذكر عليه السّلام أن علي المدعي القسامة علي أنهم قتلوا، فإن لم يأتوا بها فإن علي المتهمين القسامة أنهم لم يقتلوا و لم يعلموا له قاتلا. قال عليه السّلام:

«فإن فعلوا أدي أهل القرية الذين وجد فيهم. و إن كان بأرض فلاة أديت ديته من بيت المال» «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 10 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 121

و في صحيح الحلبي و موثق سماعة عنه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يوجد قتيلا في القرية أو بين قريتين. قال: يقاس ما بينهما، فأيهما كانت أقرب ضمنت» «1».

و في صحيح محمد بن قيس: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل قتل في قرية أو قريبا من قرية

أن يغرم أهل تلك القرية إن لم توجد بينة علي أهل تلك القرية أنهم ما قتلوه» 2. و قريب منها غيرها.

و من ثم ذهب بعض مشايخنا قدس سرّه إلي تضمين القرية، و جعل ذلك أمرا في مقابل القسامة.

لكن في جملة من النصوص أنهم لا يضمنون إذا لم يثبت قتلهم له.

ففي صحيح مسعدة بن زياد عن جعفر عليه السّلام: «قال: كان أبي رضي اللّه عنه إذا لم يقم المدعون البينة علي قتل قتيلهم و لم يقسموا بأن المتهمين قتلوه حلّف المتهمين بالقتل خمسين يمينا باللّه ما قتلناه و لا علمنا له قاتلا، ثم يؤدي الدية إلي أولياء القتيل. ذلك إذا قتل في حي واحد، فأما إذا قتل في عسكر أو سوق أو مدينة فديته تدفع إلي أوليائه من بيت المال» 3، حيث تضمن أداءه عليه السّلام للدية في فرض كون القتيل في حيّ خاص بعد اليمين علي عدم قتلهم له و عدم علمهم بقاتله.

هذا بناء علي أن الصحيح: «ثم يؤدي» بالبناء للفاعل، كما في الطبعة

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 8 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 4، 5.

(2) 3 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 6.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 122

الحديثة للوسائل. أما بناء علي أنه «ثم يؤدي» بالبناء للمجهول- كما في الطبعة الحديثة من التهذيب- فلا مجال للاستدلال به، لاحتمال كون المكلفين بالأداء هم الحيّ الذين وجد عندهم. و إن كان مرجع ذلك إلي عدم الفائدة في يمينهم علي عدم القتل، إذ مع عدم اليمين إنما يكلفون بالدية، و لا يحتمل القصاص منهم. إلا أن يفرض كون المتهم شخصا

معينا منهم أو جماعة بنحو الاشتراك، و هو بعيد عن مساق الحديث. فلاحظ.

و في صحيح بريد بعد التعرض لقسامة المدعين قال عليه السّلام: «و إلا حلف المدعي عليه قسامة خمسين رجلا ما قتلنا و لا علمنا له قاتلا، و إلا أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم إذا لم يقسم المدعون» «1»، حيث تضمن أن غرامة من قتل بين أظهرهم للدية إنما تكون مع عدم حلفهم علي نفي القتل.

و قريب منه صحيح الحسن بن محبوب عن علي بن الفضيل الوارد في المقتول في قبيلة قوم 2.

بل نصوص تشريع القسامة في قتل الأنصاري كالصريحة في ذلك، حيث وداه رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم، و لم يكلف اليهود بديته، مع أنه وجد في قليب من قلبهم، كما في صحيح زرارة 3، أو في ساقية من سواقي خيبر، كما في معتبر سليمان بن خالد 4.

و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه قال في رجل

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 3، 5.

(2 3، 4 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 10 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 3، 7.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 123

كان جالسا مع قوم فمات و هو معهم، أو رجل وجد في قبيلة أو علي باب دار قوم، فادعي عليهم. قال: ليس عليهم شي ء، و لا يبطل دمه» «1»، و نحوه صحيح عبد اللّه بن سنان، إلا أنه زاد: «و لكن يعقل» «2».

و لا ينافيه الحكم فيهما بعدم بطلان دمه و بالعقل، إذ لو كان المراد به أن الدية عليهم لم

يناسب قوله عليه السّلام: «ليس عليهم شي ء»، و لا قوله عليه السّلام:

«يعقل» بالبناء للمجهول، بل المناسب حينئذ أن يقول: ليس عليهم القود و لكن يعقلونه «3».

بل لا مجال لاحتمال القصاص غالبا ليريد عليه السّلام من الإطلاق نفيه وحده، لصعوبة دعوي اشتراكهم جميعا في القتل، بل غاية الأمر تحقق القتل من بعضهم، و هو لا يوجب استحقاق القصاص مع الجهل بالقاتل بشخصه. و من ثم يتعين حمل العقل علي بيت المال. و يستفاد ذلك من بعض النصوص الأخر، و إن لم تخل عن ضعف في السند.

و ظاهر جملة من الأصحاب العمل بهذه النصوص و إرجاع النصوص الأول إليها بحملها علي صورة اللوث علي القرية بعداوة أو نحوها، و أنه ليس في المقام إلا القسامة، و مع عدم تماميتها فالدية علي بيت المال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 8 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 8 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به ذيل حديث: 1.

(3) كما ورد في خبر محمد بن سهل عن بعض أشياخه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أن أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن رجل كان جالسا مع قوم ثقات [فمات] و نفر [هو] معهم، أو رجل وجد في قبيلة أو علي دار قوم فادعي عليهم. قال: ليس عليهم قود، و لا يبطل دمه، عليهم الدية». الوسائل ج: 19 باب: 8 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 124

قال في التهذيب بعد التعرض لبعض النصوص الأول مع اختلافها في بعض الخصوصيات: «و لا تنافي بين هذين الخبرين و بين الأخبار المتقدمة.

لأن الدية إنما تلزم

أهل القرية و القبيلة الذين وجد القتيل فيهم إذا كانوا متهمين بقتله و امتنعوا من القسامة، حسب ما قدمناه في ما مضي. فأما إذا لم يكونوا متهمين بقتله أو أجابوا إلي القسامة فلا دية عليهم، و يؤدي دية القتيل من بيت المال، حسب ما قدمناه في باب القسامة».

لكن الإنصاف أن الجمع المذكور تأباه النصوص الأول، خصوصا معتبر أبي بصير الصريح في ضمان أهل القرية بعد التعرض للقسامة، و صحيح محمد بن قيس الصريح في ثبوت الدية ما لم تقم البينة علي أهل القرية أنهم ما قتلوه.

نعم، النصوص المذكورة- مع معارضتها بالنصوص الأخيرة- لا تخلو عن غرابة في نفسها، لعدم كون تضمين القرية فيها تعبديا، كتضمين بيت المال، بل هو مبني علي تحكيم احتمال كون القتل منها، كما يناسبه سقوط الدية عنهم مع قيام البينة علي عدم قيامهم بالقتل. و من الظاهر أن تحكيم هذا الاحتمال بمجرده لا يناسب سليقة الشارع الأقدس في سائر موارد الإثبات.

خصوصا بعد النظر إلي تشريع القسامة التي فرض فيه التسامح في الإثبات من أجل أهمية الدماء و الاحتياط لها، فإنها- مع ذلك- تبتني علي كثير من التثبت في الإثبات، لما هو المعلوم من عدم سهولة إقامة قسامة

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 125

الخمسين في قتل العمد، و الخمسة و العشرين في قتل الخطأ، خصوصا بناء علي ما سبق من اختصاصها باللوث، كما هو المعروف بين الأصحاب.

فكيف يكتفي الشارع الأقدس مع ذلك في الحكم بنسبة القتل للقرية بمجرد الاحتمال، من دون إثبات آخر حتي يمين المدعي.

بل هو لا يناسب ما في غير واحد من النصوص من أن اللّه حكم في الدماء بأن اليمين علي المدعي، بنحو يظهر منها أن ذلك غاية التسامح

في الدماء، لأهميتها ردعا للفاسق الفاجر.

و لعل ذلك هو الذي أوجب إعراض الأصحاب عنها، و محاولة تأويلها، و حملها علي الحكم بضمان القرية في الجملة، و لو مع التهمة و القسامة.

بل لم يذكر الكليني رضي اللّه عنه في الباب المناسب صحيح محمد بن قيس المتقدم، و إنما ذكر بدله خبره الآخر- الذي لا وهن في سنده إلا رواية إبراهيم بن هاشم له عن بعض أصحابه- قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لو أن رجلا قتل في قرية أو قريبا من قرية، و لم توجد بينة علي أهل تلك القرية أنه قتل عندهم، فليس عليهم شي ء» «1».

بل الحكم المذكور في غاية الغرابة، فإن القاتل غالبا يعمّي عن نفسه، و يوهم أن القاتل غيره، فلا يجعله علي باب داره، بل علي باب دار غيره أو يخرجه عن قريته أو قبيلته مع صغرها دفعا للتهمة. فكيف يمكن تعويل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 8 من أبواب دعوي القتل و ما يثبت به حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 126

الشارع علي احتمال كون القاتل صاحب الدار أو القبيلة أو القرية التي فيها المقتول من دون لوث و أمارة أخري شاهدة بذلك.

بل مقتضي الإطلاق المذكور عدم الحاجة لدعوي وليّ الدم و قناعته، بل له أن يأخذ الدية منهم بمجرد الاحتمال المذكور، كما لو قامت البينة بذلك، حيث لا يحتاج معها لقناعة وليّ الدم بصدقها.

و من ثم يصعب التعويل علي ظاهر النصوص المذكورة. و لا أقل من سقوطها بالمعارضة مع النصوص الأخر، أو لكونها من المشكل الذي يردّ علمه لهم عليهم السّلام.

و حينئذ يتعين البناء علي كون الدية في بيت المال، كما لو قتل في فلاة من الأرض. لإطلاق

ما تضمن أن الدية عليه مع الجهل بالقاتل، كما يستفاد من صحيح عبد اللّه بن سنان و عبد اللّه بن بكير المتقدم، و من الحكم بذلك في الموارد المتفرقة. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 127

س 36 إذا أصيب العظم نتيجة الضربة الموجبة للدية بإصابات

اشارة

، كما إذا وقعت الضربة علي الساق فانكسر وأدت الضربة إلي حدوث كسر في أكثر من مكان من العظم المذكور، فيرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يكون لكل كسر دية خاصة، أو يكون للجميع دية واحدة؟

ج: نعم لكل كسر ديته الخاصة، عملا بإطلاق الأدلة. و التداخل في ذلك و نحوه مخالف للقاعدة، فلا مجال للبناء عليه من غير دليل. بل صرح بعدم التداخل في بعض الموارد، ففي صحيح إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل ضرب رجلا بعصا فذهب سمعه و بصره و لسانه و عقله و فرجه و انقطع جماعه و هو حيّ بست ديات» «1». و قريب منه غيره.

نعم، لا بد من صدق الكسر الذي هو موضوع الدية علي كل من الكسرين، بأن يصدق مثلا كسر الضلع أو الصلب كسرين.

أما إذا كان الكسر للعظم الخاص واحدا عرفا، إلا أن قسمي العظم المنكسر قد كسرت منه شظية، فيشكل تعدد دية كسر ذلك العظم. بل الظاهر ثبوت دية واحدة لكسر العظم المذكور، و ثبوت الأرش و الحكومة للشظية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 6 من أبواب ديات المنافع حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 128

هذا إذا لم يكن كسرها تبعا لكسر العظم غالبيا. أما إذا كان كسرها تبعا له غالبيا فلا أرش له أيضا، لأن اقتصار النصوص في بيان درك كسر العظم علي الدية الخاصة، من دون تنبيه لأرش كسر الشظية، مع غلبة حصوله، ظاهر في عدم الدرك له، و الاكتفاء بدية كسر العظم الخاص معه.

ب.. هل يختلف الحكم بين ما إذا كانت الإصابات المتعددة نتيجة ضربة واحدة أو نتيجة تعدد الضربات؟

ج: لا يختلف الحكم في ذلك. لظهور الأدلة في أن موضوع الدية ليس هو المؤثر، بل الأثر الحاصل منه، لأنه النقص الذي يتدارك بالدية.

و هو مناسب لما سبق في صحيح إبراهيم بن عمر.

نعم، إذا أدت الجناية الواحدة إلي جناية علي البدن و جناية علي المنفعة- كما لو ضربه ضربة واحدة فجرحته و أضرّت

بعقله أو بسمعه- تداخلت الجنايات و لزمه أشدّها. كما يستفاد من الاقتصار في نصوص ديات المنافع علي بيان دية المنفعة من دون إشارة إلي دية الضربة التي أدت إلي فقدها، و في نصوص ديات الأعضاء علي بيان دية العضو من دون إشارة إلي دية المنفعة التي تفقد أو تنقص بسبب قطعها.

بل صرح بذلك في صحيح أبي عبيدة الحذاء: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل ضرب رجلا بعمود فسطاط علي رأسه، فأجافه حتي وصلت الضربة إلي الدماغ، فذهب عقله. قال: إن كان المضروب لا يعقل منها أوقات الصلاة، و لا يعقل ما قال و لا ما قيل له، فإنه ينتظر به سنة، فإن

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 129

مات فيما بينه و بين السنة أقيد به ضاربه، و إن لم يمت فيما بينه و بين السنة و لم يرجع إليه عقله أغرم ضاربه الدية في ماله، لذهاب عقله. قلت: فما تري عليه في الشجة شيئا؟ قال: لا، لأنه إنما ضرب ضربة واحدة فجنت الضربة جنايتين، فألزمته أغلظ الجنايتين، و هي الدية. و لو كان ضرب ضربتين فجنت الضربتان جنايتين لألزمته جناية ما جنتا كائنا ما كان، إلا أن يكون فيهما الموت بواحدة و تطرح الأخري فيقاد به ضاربه … » «1».

و منه يظهر التداخل أيضا فيما إذا أدت الجناية أو الجنايات إلي الموت، فيثبت بها القصاص، أو دية النفس، و تسقط الجنايات التي سببت الموت.

كما يستفاد ذلك أيضا من معتبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له:

ما تقول في رجل ضرب رأس رجل بعمود فسطاط فأمّه حتي [يعني] ذهب عقله. قال: عليه الدية … قلت: فإنه مات بعد شهرين أو ثلاثة. قال

أصحابه:

نريد أن نقتل الرجل الضارب. قال: إن أرادوا أن يقتلوه يردوا الدية … » 2.

بل هو المعلوم من النصوص و السيرة، حيث إن القتل غالبا يكون بجناية أو جنايات علي البدن، و ربما تكون ديتها أكثر من دية النفس، و لا ينظر لذلك، بل يؤخذ الجاني بالقصاص أو دية النفس لا غير.

ج.. و إذا انفصلت قطعة من العظم بالإضافة إلي حدوث الكسر، فهل يكون لذلك دية مستقلة، أو يكون لذلك حكم آخر؟

ج: ورد في كثير من الفروع دية لنقل العظم من مكانه، و هو داخل

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 7 من أبواب ديات المنافع حديث: 1، 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 130

في مورد السؤال. و في موارد عدم النصّ فالمرجع الأرش و الحكومة إذا كان ذلك موجبا لزيادة النقص عرفا.

س 37 من المعلوم أن في دية الأصابع قولين للأصحاب:

الأول: أنها تتساوي في الدية، و لكل منها عشر دية النفس. و هو المشهور بين القدماء و المتأخرين، و به عدة روايات.

الثاني: أن الإبهام يختلف عن بقية الأصابع في الدية، و هو قول جماعة من القدماء، كأبي الصلاح الحلبي في الكافي و ابن زهرة في الغنية، و صاحب إصباح الشيعة رحمهم اللّه. و هم و إن اختلفوا علي أقوال ثلاثة، إلا أنها تتفق في تمييز الإبهام عن بقية الأصابع في الدية. و هو الذي تشهد به معتبرة ظريف.

و قد نسب الشيخ في المبسوط مضمونها إلي رواية أكثر الأصحاب، كما ذكر في الخلاف أن عليه إجماع الفرقة و أخبارهم. و هو الذي أختاره آية اللّه العظمي السيد الخوئي رحمه اللّه.

مرجحا لمعتبرة ظريف علي الروايات الأخري بمخالفة العامة.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 131

ج: تعقيبا علي ما ذكر فالنصوص الدالة علي مساواة الأصابع في الدية كثيرة جدا. كصحيح أبان بن تغلب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل … إن المرأة تعاقل الرجل إلي ثلث الدية … » «1».

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الإصبع عشر الدية إذا قطعت من أصلها أو شلت. قال: و سألته عن الأصابع أ هن سواء في الدية؟

قال: نعم» «2».

و نحوه

صحيحا عبد اللّه بن سنان «3»، و موثقا زرارة و سماعة «4»، و معتبر أبي بصير «5»، و رواية الحكم بن عتيبة 6، و خبر الحسن بن صالح 7.

و ليس في مقابل ذلك إلا معتبرة ظريف المذكورة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: « … و دية الأصابع و القصب الذي في الكف في الإبهام إذا قطع ثلث دية اليد، مائة دينار و ستة و ستون دينارا و ثلثا دينار … و في الأصابع في كل إصبع سدس دية اليد ثلاثة و ثمانون دينارا و ثلث دينار …

و دية الأصابع و القصب التي في القدم للإبهام ثلث دية الرجلين ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون دينارا و ثلث دينار … و دية كل إصبع منها سدس دية الرجل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 44 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 39 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 39 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 4، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 39 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 8، 6.

(5) 5، 6 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 39 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 7، 1.

(6) 7 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 28 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 132

ثلاثة و ثمانون دينارا و ثلث دينار … » «1»، و لا بد من حمل الدية المذكورة فيها لإبهام الرجلين علي أنها دية الإبهامين معا.

لكن لا بد من ترجيح تلك الروايات علي معتبرة ظريف بشهرة الرواية، فإنه مقدم علي الترجيح بمخالفة العامة رتبة.

و لا سيما مع ظهور إعراض الأصحاب عنها و عملهم بنصوص المساواة، حتي إن

الشيخ قدس سرّه في المبسوط مع نسبته رواية التفريق بين الأصابع لأكثر الأصحاب أفتي بالمساواة بينها فيه و في النهاية، و كلامه في الخلاف و إن كان قد يظهر منه الميل لمضمون معتبرة ظريف، إلا أنه لا يخلو من اضطراب و إجمال، كما يظهر بمراجعته.

و أما ابن زهرة فقد أفتي بأن في الإبهام ثلث دية اليد، و في بقية الأصابع عشر ديتها، و هو المحكي عن الإصباح. و كذا الحلبي في أصابع اليدين مع موافقة المشهور في الرجلين. و كلاهما لا يطابق معتبرة ظريف.

و لم يتضح القول بمضمون المعتبرة المذكورة إلا من ابن حمزة في الوسيلة. و من ثم لا مجال للتعويل عليها في مقابل تلك النصوص.

______________________________

(1) الفقيه ج: 4 ص: 60- 64، و التهذيب ج: 10 ص: 302- 306 و رواها في الوسائل مقطعة في ج: 9 باب: 12 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 1، و باب: 17 من الأبواب المذكورة حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 133

س 38 [الكلام في الدية الأصابع]

اشارة

بناء علي التعويل علي معتبرة ظريف فنظرا إلي أن المهن قد شهدت تحولا كبيرا في العصر الحديث، فبعض الأشخاص الذين تصاب أصابعهم و مهنتهم ذات علاقة مباشرة بالأصابع- كالخط و الجراحة- تكون أضرارهم بليغة نتيجة الإصابة الحاصلة.

فيرجي منكم الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يمكن أن يقال: إن الاختلاف الذي تطرحه معتبرة ظريف بين الإبهام و سائر الأصابع ناشئ من مقدار فاعلية الأصابع؟

ج: نعم يحتمل ذلك. لكن لا بمعني: أن يكون الاختلاف تابعا لمقدار الفاعلية، بأن يكون المدار عليه شرعا، بحيث لو لم يكن للإبهام أهمية في زيادة الفاعلية- بسبب بعض التمارين التي يقوم بها بعض الأشخاص أو غير ذلك- لم يتميز الإبهام عن بقية الأصابع بالدية، بل بمعني: كونه حكمة نوعية لاختلاف مقدار الدية، مع الجمود علي خصوصية الإبهام، عملا بظاهر النص.

ب.. بناء علي ذلك، هل يمكن إلغاء خصوصية الإبهام

، بحيث تعم الجهة المذكورة إلي سائر الأصابع، و تقاس الخسارة

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 134

الحاصلة علي الإصبع بلحاظ أهمية العمل و تحديد كل إصبع من خلال ذلك، ليكون تحديد الدية علي ضوء الخسارة الحاصلة؟

ج: لا مجال لذلك بعد ما سبق، و لا سيما مع أن الأصابع الأربع غير الإبهام مختلفة الأهمية نوعا في الناس، فاتفاقها في الدية كاشف عن عدم كون أهمية المنفعة معيارا في مقدار الدية. بل فتح هذا الباب يوجب اضطراب الأحكام كثيرا، و فقد الضوابط لتحديد الدية، لاختلاف الناس كثيرا في منافع الأعضاء، من دون خصوصية للأصابع في ذلك.

علي أن ذلك ليس مستجدا في هذه العصور، بل هو أسبق من ذلك، مع الإنسان. و قد كانت الصناعات و المهن المتعلقة شايعة في عصور الأئمة عليهم السّلام، كالكتابة، و الخياطة، و النقوش اليدوية، و غيرها من الأعمال الفنية، و مع ذلك أطلق في النصوص تحديد الديات من دون مراعاة هذه الخصوصيات.

و يأتي في جواب السؤال الثامن و الثلاثين ما ينفع في المقام.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 135

س 39 بالنسبة إلي الخسائر التي تزيد علي الدية، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يجب علي الجاني أن يؤدي الخسائر الواردة علي المجني عليه

، كتكاليف الشفاء من الجرح، أو يقتصر علي الدية المقررة شرعا؟

ج: لا يجب عليه شي ء غير القصاص أو الدية، للاقتصار عليهما في الكتاب المجيد و السنة الشريفة.

و لا سيما مع التعرض في النصوص للبرء التام أو مع العيب، أو عدم البرء ففي موثق إسحاق بن عمار عن جعفر: «إن عليا عليه السّلام كان يقول: لا يقضي في شي ء من الجراحات حتي تبرأ» «1»، كما تعرضت النصوص للقرحة التي لا تبرأ، و لجبر الكسر من غير عثم و لا عيب، و لجبره مع العثم «2».

فإن التعرض لذلك كله، من دون إشارة لنفقات العلاج، و

الاقتصار علي الدية، كالصريح في عدم ضمان نفقات العلاج. و علي ذلك جري فقهاؤنا رضي اللّه عنهم، من دون خلاف ظاهر.

نعم، في موثق أبي مريم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام أن لا يحمل علي العاقلة إلا الموضحة فصاعدا. و قال: ما دون

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 42 من أبواب موجبات الضمان حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 12 من أبواب ديات الاعضاء حديث: 1، و باب: 12 منها حديث: 1، و باب: 17 منها حديث: 1، و باب: 2 من أبواب ديات الشجاج و الجراح حديث: 3 و غيرها. قال في لسان العرب: «و عثم العظم المكسور إذا انجبر علي غير استواء».

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 136

السمحاق أجر الطبيب سوي الدية». كذا في الكافي و التهذيب «1». و ظاهره أو صريحه لزوم أجر الطبيب مع الدية. و أما ما في الوسائل الحديثة من روايته هكذا: «أجر الطبيب سواء الدية» «2». فالظاهر أنه تصحيف، إذ لا معني لهذا التركيب.

و حينئذ يحمل عليه موثق غياث بن جعفر عن أبيه عن علي عليه السّلام:

«قال: ما دون السمحاق أجر الطبيب» 3. فيحمل علي ثبوت أجر الطبيب مع الدية لا بدلا عنها.

لكن ذلك لا يناسب النصوص الكثيرة المقتصر فيها علي الدية في مورد الموثقين، كموثق منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الخرصة شبه الخدش بعير، و في الدامية بعيران، و في الباضعة- و هي ما دون السمحاق- ثلاث من الإبل … » 4، و غيره.

علي أن الحكم المذكور لا يخلو عن غرابة، لأن ما هو الأشد أولي بالتشديد في الغرم. و لعله لذا لا يظهر من الأصحاب

(رضوان اللّه عليهم) العمل بالنصوص المذكورة، حتي الكليني و الشيخ، فإن الكليني ذكر موثق أبي مريم في باب العاقلة و الشيخ ذكره في باب البينات علي القتل، و لم يشيرا لمضمونه في باب الديات، و الشيخ و إن ذكر في التهذيب موثق غياث في باب الديات 5، إلا أنه لم يشر إلي مضمونه في النهاية و المبسوط و الخلاف،

______________________________

(1) الكافي ج: 7 ص: 365، التهذيب ج: 10 ص: 170.

(2) 2، 3 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 5 من أبواب العاقلة حديث: 1، 2.

(3) 4 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 2 من أبواب ديات الشجاج و الجراح حديث: 14.

(4) 5 التهذيب ج: 10 ص: 293.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 137

بل اقتصر فيها علي الدية.

و من ثم لا مجال للبناء علي تحمّل أجر العلاج زائدا علي الدية في مورد الخبرين، فضلا عن التعدي عن موردهما. و لا سيما مع ظهورهما في خصوصية موردهما. و ربما يحملان علي الاستحباب في موردهما بعد كون أجر العلاج فيه قليلا غالبا. بل قد لا يحتاج للعلاج.

ب.. في الحالات التي تكون فيها الدية أقل أو أكثر أو مساوية للتكاليف، فما هو الحكم؟

ج: يتعين الاقتصار علي الدية عند عدم القصاص. لما سبق.

ج.. إذا كان لا يجب علي الجاني أكثر من الدية، فهل يمكن للحكومة أن تسنّ قانونا يلزم الجاني بإعطاء الخسائر المذكورة؟

ج: القانون المذكور لا يتناسب مع التشريع الإسلامي. و تشريعه يتضمن اعترافا مبطّنا بعدم وفاء التشريع الإسلامي بعلاج المشكلة، و حفظ الحقوق. و ادعاء ذلك من أعداء الإسلام أخفّ وطأة علي الإسلام من الاعتراف به ممن يعتنقونه و يحكمون باسمه. و قد تقدم في جواب السؤال الثاني و الثالث و الرابع و الثالث عشر ما ينفع في المقام، كما يأتي أيضا في جواب السؤال الستين.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 138

د.. هل يفرق بين أنواع الخسائر

، كالخسائر التي يتوقف عليه الشفاء، و الخسائر المترتبة نتيجة تلف العضو، كالتلف الذي يصيب يد الخطاط مثلا؟

ج: لا يفرق بين أنواع الخسائر بعد ما سبق. و فتح هذا الباب يفتح لنا أبوابا كثيرة من أبواب التنسيبات و الاستحسانات ما أنزل اللّه تعالي بها من سلطان. بل لا ريب نصا و فتوي في أن اليدين متساويتان في الدية، مع أن اليمين نوعا أكثر نفعا. و قد تقدم في جواب السؤال السابع و الثلاثين ما ينفع في المقام.

س 40 كما تعلمون فإن هناك روايات واردة في باب الديات تجعل الشفاء من الجرح أو نقص العضو من الأسباب التي تؤثر علي مقدار الدية في بعض الحالات.

اشارة

و حيث تطورت أساليب العلاج الطبية في عصرنا الحالي، فيرجي الإجابة عن ما يلي بالنظر إلي ذلك:

أ.. هل يمكن التعدي عن الموارد المنصوصة إلي غيرها في التأثير علي الدية من أجل حصول الشفاء؟

ج: لا مجال للتعدي عن الموارد المنصوصة بعد اختلاف النصوص في خصوصيات الحكم المذكور اختلافا فاحشا، حتي جعل المعيار في

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 139

النصوص في بعضها- كالسمع و العقل- علي الشفاء في ضمن السنة، حيث يصعب مع ذلك فهم عدم الخصوصية لموارد النصوص، لعدم إدراك قدر جامع عرفي، ليفهم كونه هو موضوع الحكم من دون خصوصية للموارد.

ب.. هل يمكن اعتبار إعادة العضو بعملية جراحية مؤثرا في الدية؟

فمثلا لو أن يد أو أصابع شخص قطعت بسبب جناية ما و عولجت بأسرع وقت لأمكن إعادتها إلي ما كانت عليه.

ج: لا مجال لذلك بعد ما سبق. و لا سيما و أن مصارف العلاج علي المجني عليه، لا علي الجاني، كما يأتي في جواب السؤال الأربعين.

نعم، الأحوط وجوبا منع الشفاء بالوجه المذكور من القصاص.

لموثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «أن رجلا قطع من بعض أذن رجل شيئا، فرفع ذلك إلي علي عليه السّلام فأقاده، فأخذ الآخر ما قطع من أذنه فردّه علي أذنه بدمه، فالتحمت و برئت، و عاد الآخر إلي علي عليه السّلام فاستقاده، فأمر بها فقطعت ثانية، و أمر بها فدفنت. و قال: إنما يكون القصاص من أجل الشين» «1».

فإن وجوب القصاص في الطرف من أجل الشين يناسب اعتبار كون الجناية الموجبة للقصاص تقتضي الشين أيضا، و أنها لو لم تقتض الشين- لإرجاع العضو المقطوع للبدن و التحامه به- لم تقتض القصاص، لئلا يلزم كون القصاص أشدّ من الجناية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 23 من أبواب قصاص الطرف حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 140

س 41

أ.. في بعض الموارد التي يكون الشفاء من الجرح أو نقص العضو مؤثرا علي مقدار الدية، فهل تكون المصاريف المؤدية إلي ذلك علي الجاني أو المجني عليه؟

ج: ليس علي الجاني تحمّل نفقة الشفاء، بل هو علي من يقوم به، كالمجني عليه، أو من يهمه أمره. لعدم التنبيه في النصوص لتحمل الجاني ذلك.

و لا سيما مع أن الذي يهتمّ بالعلاج بمقتضي الوضع المتعارف هو المجني عليه أو من يهمه أمره، و النصوص لم تتضمن الأمر بالعلاج، بل مجرد تبدل الدية علي تقدير تحققه، فعدم التنبيه فيها لتحمل الجاني للخسارة ظاهر في عدم تحمله لها. و قد تقدم في جواب السؤال الثامن و الثلاثين ما ينفع في المقام.

ب.. فإذا كانت المصاريف علي المجني عليه، و كانت أكثر من الدية، فهل هناك طريق شرعي لجبر الخسائر المذكورة؟

(و هناك حالات كثيرة تكون فيها الخسائر المذكورة أكثر من الدية).

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مسائل معاصرة في فقه القضاء، در يك جلد، دار الهلال، نجف اشرف - عراق، دوم، 1427 ه ق مسائل معاصرة في فقه القضاء؛ ص: 140

ج: لا جبر للخسارة المذكورة شرعا. و أدني ملاحظة للنصوص توجب وضوح ذلك.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 141

ج [الكلام فيمن يتحمل تكاليف الاستطاب]

.. في بعض الموارد- ككسر فقرات الظهر- مما تكون له الدية كاملة بناء علي فتاوي الفقهاء، إذا كان الكسر بحيث يعالج و لا يبقي للجناية أثر يلزم الجاني بمائة دينار. ففي هذه الموارد هل يقصد من الشفاء قابلية الشفاء أو فعليته.

و المقصود من السؤال أنه إذا كان المراد من الشفاء هو الشفاء الفعلي، فيجب إما دفع الدية الكاملة و ينتظر فإن تحقق الشفاء أرجع إليه تسعمائة دينار، و إما أن ينتظر الشفاء، فإن تمّ دفع المائة (و إن كانت ذمته من أول الأمر مشغولة بتمام الدية). و إذا كان المراد شأنية الشفاء، فتكون ذمة الجاني مشغولة من أول الأمر بالمائة لا غير.

ج: ظاهر النص بدوا أن المعيار علي فعلية الشفاء، ففي معتبرة ظريف عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: « … و إن انكسر الصلب فجبر علي غير عثم و لا عيب، فديته مائة دينار، و إن عثم فديته ألف دينار» «1».

فإن مقتضي الجمود عليه عدم ثبوت إحدي الديتين إلا بعد الجبر علي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 13 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 142

عثم أو بدونه، فمع العثم تثبت الدية التامة، و بدونه تثبت المائة دينار، و لا يثبت شي ء منها بمجرد الكسر.

لكن مناسبة الحكم و الموضوع تأبي ذلك. لظهور

أن التعدي علي المجني عليه إنما يكون بالكسر، و هو بنفسه موجب لنقص فيه، و الجبر من دون عثم من سنخ التدارك للنقص المذكور، و التخفيف منه، و ذلك يناسب ثبوت الدية التامة بالكسر من أول الأمر، و سقوط تسعمائة بالجبر من دون عثم و لا عيب.

و لا سيما بملاحظة موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في الصلب [إذا انكسر. فقيه] الدية» «1». فإن الجمع بينه و بين معتبرة ظريف- بما ذكرنا من ثبوت الدية التامة بمجرد الكسر، ثم سقوط التسعمائة بالجبر من غير عثم و لا عيب- أقرب عرفا من الجمع بينهما بحمله علي عدم ثبوت الدية التامة إلا بعد انجبار الكسر علي عثم و عيب.

بل لا ينبغي التأمل بثبوت الدية التامة لو لم يجبر أصلا، لنقص في بدن المجني عليه، أو موته بعد الجناية بسبب آخر. و ذلك يناسب ما ذكرنا، فلا مخرج عنه.

و هذا جار في نظائر ذلك من موارد تخفيف الدية بالشفاء.

نعم، في موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عليه السّلام: «إن عليا عليه السّلام كان

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 14 من أبواب ديات الأعضاء حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 143

يقول: لا يقضي في شي ء من الجراحات حتي تبرأ» «1».

لكن من القريب حمله علي عدم القضاء بوجه ينهي الدعوي و يحدد الجناية إلا بعد الشفاء، خوفا من السراية الموجبة لزيادة الدية، من دون أن ينافي استحقاق درك الجناية بمجرد حدوثها. فلا يخرج به عن ما ذكرنا.

س 42 في الإصابات التي تؤدي إلي شلل العضو، إلا أنه يمكن علاجها و التخلص من الشلل الحاصل نتيجة الإصابة، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يلزم الشخص المصاب بمعالجة نفسه؟

ج: لا يلزم بذلك. لعدم الدليل عليه، و الأصل البراءة.

ب.. في صورة علاج الإصابة، هل يمكن تضمين الجاني كلفة ما يزيد علي الدية من نفقات العلاج؟

ج: لا يضمن ذلك. لظهور أدلة الديات في كونها تمام الشي ء المستحق بسبب الجناية. كما تقدم نظيره في الجواب عن السؤال الثامن و الثلاثين.

بل لو حصل الشفاء لم يلزم حتي بدية الشلل. لظهور أدلة دية الشلل في الشلل الفعلي الذي من شأنه الثبوت و البقاء، بحيث يصدق أن العضو مشلول، كما هو مفاد الصفة المشبهة، دون التعطيل الموقت بسبب الجرح،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 42 من أبواب موجبات الضمان حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 144

و دون الشلل الاقتضائي الراجع إلي أن من شأن الجناية أن تؤدي إليه، و إن لم يتحقق فعلا بسبب العلاج.

إلا أن يرجع العلاج إلي إصلاح العضو و رفع شلله بعد تحقق الشلل الذي من شأنه البقاء، فإنه حينئذ لا يمنع من استحقاق دية الشلل.

و بعبارة أخري: العلاج مع الجناية التي من شأنها أن توجب الشلل..

تارة: يمنع من تأثير الجناية للشلل عرفا، بحيث لا يصدق علي العضو أنه قد شلّ، غاية الأمر أنه قد تعطل مؤقتا بسبب صدمة الجناية.

و أخري: يوجب ارتفاع الشلل بعد حدوثه و استحكامه.

أما الثاني فلا يمنع من استحقاق دية الشلل، لإطلاق أدلته.

و أما الأول فهو مانع من استحقاق دية الشلل، لأن موضوع دية الشلل هو الشلل الفعلي دون الاقتضائي. بل الثابت دية الجناية بنفسها- مع قطع النظر عن الشلل- إذا كان لها مقدار شرعي، و الرجوع للأرش و الحكومة إن لم يكن لها مقدار شرعي.

و في كلا الحالين لا يلزم الجاني بنفقة العلاج حتي إذا زادت علي الدية أو أرش الجناية، لما سبق.

نعم، حيث سبق عدم وجوب العلاج علي المجني عليه لدفع الشلل، فإذا كانت

نفقة العلاج أقل من الدية، فقد يتصالح الجاني و المجني عليه علي

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 145

قيام المجني عليه بالعلاج، و تحمل الجاني نفقته، بلحاظ أن ذلك هو الأصلح للطرفين. إلا أن ذلك ليس من درك الجناية الذي هو محل الكلام.

س 43 حيث كان المشهور أن دية أهل الكتاب ثمانمائة درهم، فهل الأقلية المجوسية مشمولة بهذا الحكم؟

ج: نعم هي مشمولة بهذا الحكم كما عليه الأصحاب رضي اللّه عنهم و لا يعرف الخلاف فيه منهم.

و تقتضيه طائفتان من النصوص:

الأولي: ما تضمن ثبوت الدية المذكورة للذمي، كصحيح محمد ابن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «دية الذمي ثمانمائة درهم» «1» و غيره، لوضوح شمول إطلاقه لهم.

الثانية: ما صرح فيه بتعميم الحكم لهم، و مساواتهم لليهود و النصاري في الدية المذكورة، كصحيح أبان بن تغلب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

إبراهيم يزعم أن دية اليهودي و النصراني و المجوسي سواء. فقال: نعم، قال الحق» «2».

و صحيح ليث المرادي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن دية النصراني و اليهودي و المجوسي. فقال: ديتهم جميعا سواء، ثمانمائة درهم، ثمانمائة درهم» 3.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 13 من أبواب ديات النفس حديث: 3.

(2) 2، 3 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 13 من أبواب ديات النفس حديث: 1، 5.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 146

و موثق زرارة: «سألته عن المجوس ما حدّهم؟ فقال: هم من أهل الكتاب، و مجراهم مجري اليهود و النصاري في الحدود و الديات» «1»، و موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: بعث النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم خالد بن الوليد إلي البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود و النصاري و المجوس. فكتب إلي النبي صلي اللّه عليه و آله و

سلم: إني أصبت دماء قوم من اليهود و النصاري فوديتهم ثمانمائة درهم، ثمانمائة. و أصبت دماء قوم من المجوس، و لم تكن عهدت إلي فيهم عهدا. فكتب إليه رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: إن ديتهم مثل دية اليهود و النصاري.

و قال: إنهم أهل كتاب» 2، و نحوها غيرها.

نعم، هناك نصوص مخالفة لذلك في جميع أهل الذمة، أو في خصوص اليهود و النصاري:

منها: ما دل علي أن ديتهم دية المسلم، كموثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسلم قتل ذميا، فقال: هذا شي ء شديد لا يحتمله الناس، فليعط أهله دية المسلم حتي ينكل عن قتل السواد، و عن قتل الذمي. ثم قال: لو أن مسلما غضب علي ذمي فأراد أن يقتله و يأخذ أرضه و يؤدي إلي أهله ثمانمائة درهم إذا يكثر القتل في الذميين … » 3.

و صحيح أبان بن تغلب عنه عليه السّلام: «قال: دية اليهودي و النصراني و المجوسي دية المسلم» 4.

و موثق زرارة أو صحيحه عنه عليه السّلام: «قال: من أعطاه رسول

______________________________

(1) 1، 2، 3 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 14 من أبواب ديات النفس حديث: 11، 7، 1.

(2) 4 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 14 من أبواب ديات النفس حديث: 2، 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 147

اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم ذمة فديته كاملة. قال زرارة: فهؤلاء؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

و هؤلاء من أعطاهم ذمة؟!» «1».

و منها: ما تضمن أنها أربعة آلاف درهم، كمرسل الصدوق: «روي أن دية اليهودي و النصراني و المجوسي أربعة آلاف درهم، أربعة آلاف درهم، لأنهم أهل الكتاب» «2».

و معتبر أبي بصير عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام: «قال: دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف درهم، و دية المجوسي ثمانمائة درهم … » «3».

لكن يتعين ترجيح النصوص الأول. لعمل الطائفة بها، و مخالفتها لجميع العامة، حيث لم ينقل مضمونها عن أحد منهم، حتي عدّ مضمونها في الانتصار من متفردات الإمامية.

بخلاف هذه النصوص لموافقتها لبعضهم، فالنصوص المتضمنة مساواتهم للمسلم موافقة لأبي حنيفة و أصحابه و عثمان البستي و الثوري و الحسن بن حيّ و داود، و معتبر أبي بصير موافق للمنقول في إحدي الروايتين عن عمر و عثمان و عن الشافعي في القديم، و عن سعيد بن المسيب و عطا و أبي ثور إسحاق، كما يظهر بمراجعة الانتصار و الخلاف. و ربما نقل عنهم غير ذلك من ما لا يسعنا تفصيل الكلام فيه و لا يهمنا بعد وضوح ترجيح النصوص الأول بمخالفة العامة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 14 من أبواب ديات النفس حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 13 من أبواب ديات النفس حديث: 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 14 من أبواب ديات النفس حديث: 4.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 148

كما يناسبه قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «هذا شي ء شديد لا يحتمله الناس»، و ما في ذيله من التنبيه إلي أن الدية الشرعية- و هي ثمانمائة درهم- غير صالحة للتطبيق، و لا تكفي في الردع عن القتل، و ما في حديث زرارة من قصر الدية التامة علي من أعطاهم رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم الذمة. إذ لعله للتهرب من إعلان خلاف مثل عمر و عثمان.

و أما مرسل الصدوق فهو- مع ضعفه- شاذ لم يظهر لنا فعلا قائل به منا، و لا

من العامة.

و أما ما في النهاية من أن من تعوّد قتل أهل الذمة جاز للإمام إلزامه بأن يديه بأربعة آلاف درهم، و ما في الاستبصار من حمل ما دلّ علي أن ديتهم دية المسلم علي من تعوّد قتلهم، و ما يظهر من الوسائل من تخيير الإمام في من تعوّد قتلهم بين الأمرين حسبما يراه. فذلك كله لا شاهد له من النصوص.

و مثله ما في الفقيه من الجمع بين هذه الأخبار بحمل النصوص الأول علي من لم يف بشرائط الذمة، و ما تضمن أن ديتهم أربعة آلاف درهم علي من و في بها، و ما تضمن أن ديتهم دية المسلم علي ما إذا آمنهم الإمام الواجب الطاعة، و جعلهم في عهده و عقده، و جعل لهم ذمة و لم ينقضوا عهدهم، و وفوا بشرائط الذمة.

إذ فيه: أن الجمع المذكور بلا شاهد أيضا. بل الذي يخالف شرائط الذمة لا حرمة له، فلا مجال لحمل نصوص الثمانمائة درهم عليه. كما أن موثق سماعة

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 149

في قصة خالد بن الوليد إنما ورد في من دخل في ذمة رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم.

و من ثم يتعين ما ذكرنا من ترجيح النصوص الأول بمخالفة العامة، و إهمال بقية النصوص لموافقتهم، أو لضعفها.

س 44 إذا كان المقتول أحد أتباع الفرقة الضالة البهائية، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يجب دفع الدية أو لا؟

ب.. إذا وجب دفع الدية فكم قدرها؟

ج: الظاهر أن الفرقة المذكورة خارجة عن الإسلام. و حيث إنها ليست من أهل الكتاب، و لا ذمية، فلا دية لقتيلها. و حينئذ لا موضوع لتحديد مقدار ديتها.

س 45 حيث تغلظ دية القتل إذا وقع في الأشهر الحرم أو في حرم مكة المعظمة، فيثبت به دية و ثلث، فيرجي الجواب عن ما يلي:

أ.. هل يختص التغليظ المذكور بالقتل العمدي، أو يشمل شبه العمد و الخطأ المحض؟

ج: يشمل التغليظ المذكور دية الخطأ بقسميه، من دون إشكال ظاهر.

لإطلاق النصوص، كمعتبر كليب الأسدي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 150

الرجل يقتل في الشهر الحرام ما ديته؟ قال: دية و ثلث» «1».

و صحيح زرارة أو موثقة: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل قتل في الحرم، قال: عليه دية و ثلث، و يصوم شهرين متتابعين من أشهر الحرم … » «2».

و دعوي: أن ابتناء التغليظ علي العقوبة التي لا تناسب الخطأ يوجب انصراف الإطلاق للعمد. مدفوعة: بأن التغليظ قد لا يبتني علي العقوبة، بل علي تعظيم حرمة المقتول في الحرم أو الأشهر الحرم، نظير تعظيم حرمة الرجل بالإضافة للمرأة، و المسلم بالإضافة إلي الذمي.

علي أن الكفارة أولي بالعمد لابتنائها نوعا علي التكفير للذنب و الجريمة، و مع ذلك ثبتت في قتل الخطأ. بل الحكم في حديث زرارة بثبوت الدية يناسب الخطأ، لأن العمد إنما يثبت به القصاص في الأصل غالبا، و الانتقال للدية إنما يكون بالصلح الذي قد يتضمن أكثر من الدية أو أقل منها.

هذا مضافا إلي معتبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن رجل قتل رجلا خطأ في الشهر الحرام، قال: تغلظ عليه الدية … » «3»، و في معتبره الآخر: «عليه دية و ثلث» «4».

و أما صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عن رجل قتل رجلا خطأ في أشهر الحرم، فقال: عليه الدية … » 5.

فلا بد من حمل الدية فيه علي المغلظة، جمعا بينه و بين ما سبق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 3 من أبواب ديات النفس حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 3 من أبواب ديات النفس حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 7 باب: 8 من أبواب بقية الصوم الواجب حديث: 1.

(4) 4، 5 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 3 من أبواب ديات النفس حديث: 5، 4.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 151

ب.. هل يختص الحكم المذكور بالمسلمين أو يشمل أهل الكتاب أيضا؟

ج: لا يختص بالمسلمين، بل يشمل أهل الكتاب بعد فرض ثبوت الدية لهم. لإطلاق النصوص السابقة و غيرها.

ج.. هل يعتبر جهل القاتل بالحكم أو الموضوع مؤثرا، و دخيلا في مضاعفة الدية؟

ج: لا أثر له في ذلك بعد إطلاق النصوص المذكورة، و لا سيما بملاحظة ما سبق من عموم الحكم للقتل خطأ.

س 46 [مهلة أداء الدية في شبه العمد]

بناء علي ما يذكر في كتاب الديات تتحدد مهلة دفع الدية في القتل و الجروح شبه العمدية (كالجروح و نحوها الناشئة من حوادث السيارات) بسنتين. و عليه فهل يقبل دعوي إعسار الجاني قبل انقضاء المدّة المقررة أو لا؟

ج: تحديد مهلة دفع الدية في شبه العمد بسنتين و إن كان هو المشهور، بل ظاهر المبسوط و السرائر الإجماع عليه، و نفي الخلاف فيه الغنية.

إلا أنه لم يتضح الدليل عليه. حيث استدل عليه في الرياض بالإجماع المستفاد ممن تقدم، مؤيدا بما عن المختلف من الاحتجاج له بأنه كما ظهر التفاوت بين العمد و الخطأ في الأجل، فتؤدي الدية في الأول في سنة، و في

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 152

الثاني في ثلاث سنين، وجب أن يظهر التفاوت بينهما و بين شبه العمد في الأجل أيضا فيكون متوسطا بينهما، عملا بالمناسبة.

لكن الإجماع لم يبلغ مرتبة الحجية بعد عدم شيوع الابتلاء بالمسألة في عصور الأئمة عليهم السّلام، بنحو يتيسر العلم بقولهم عليهم السّلام من مثل هذه الدعاوي.

و لا سيما مع ظهور التوقف في ذلك من غير واحد، كالشيخ في النهاية و المحقق في الشرائع و النافع، و محكي المهذب و غيرها. بل في الخلاف أنها تؤدي في سنة، و عن ابن حمزة أنها تؤدي في سنة إن كان موسرا و في سنتين إن كان معسرا.

و أما ما سبق عن المختلف فهو استحسان لا ينهض بالاستدلال.

و من ثم كان الظاهر أن الخطأ شبه العمد كالخطإ المحض، تكون المدة فيه ثلاث سنين، لصحيح أبي ولاد عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام: «قال كان علي عليه السّلام يقول: تستأدي دية الخطأ في ثلاث سنين، و تستأدي دية العمد في سنة» «1». فإن إطلاق الخطأ فيه يشمل شبه العمد، و لا سيما مع مقابلته بالعمد، و مع ظهور الصحيح في استيفاء الأقسام.

و بذلك يخرج عن أصالة التعجيل بالأداء التي هي مقتضي سلطنة صاحب الحقّ علي حقه المقتضية لعدم جواز حبسه عنه بدون إذنه.

ثم إن دعوي الإعسار قبل مضي المدّة المقررة لا أثر لها بناء علي جواز

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 4 من أبواب ديات النفس حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 153

تأخير الدية بتمامها إلي آخر المدة. لأن دعوي الإعسار إنما تتجه لبيان العذر المبرر لتأخير أداء الحق عند وجوب المبادرة به. أما مع عدم وجوب المبادرة و جواز التأخير إلي آخر المدة، فلا يحتاج التأخير للعذر المبرر، ليترتب الأثر علي الدعوي المذكورة.

نعم، بناء علي وجوب تقسيط الدية في السنين الثلاث، لكل سنة ثلثها، فتتجه الدعوي المذكورة من أجل المبرر لعدم دفع القسط في السنة التي يدعي الإعسار فيها. و المتجه حينئذ سماع الدعوي، و جريان حكم القضاء فيها، كما هو الحال في سائر موارد دعوي الإعسار و العجز عن أداء الدين.

هذا و مقتضي إطلاق الصحيح المتقدم جواز تأخير الدية بتمامها إلي آخر المدة. و لا سيما مع المقابلة بدية العمد التي تؤدي في سنة، لوضوح أنه لا يراد به تقسيطها في أثناء السنة، بل جواز تأخيرها بتمامها إلي نهاية السنة.

نعم، في الرياض: «و تستأدي في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها إجماعا منا، بل من الأمة أيضا، كما عن الخلاف، حكاه جماعة حدّ الاستفاضة … ».

لكن لا يبعد رجوع معقد إجماع الخلاف للتحديد بثلاث

سنين، لا للتقسيط عليها، كما يناسبه أنه جعل الإجماع في مقابل قول ربيعة بالتأجيل خمس سنين، و قول بعض الناس بأنها حالّة غير مؤجلة، و أنه عضد الإجماع المذكور بإجماع الصحابة، قال: «لأنه روي عن علي (عليه الصلاة

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 154

و السلام) و عن عمر أنهما جعلا دية الخطأ علي العاقلة في ثلاث سنين، و لا مخالف لهما».

و من ثم يشكل عموم معقد إجماعه المدعي للتقسيط، فضلا عن حجيته في ذلك بنحو يخرج به عن إطلاق النص. و علي ذلك لا أثر للدعوي المذكورة.

هذا و الظاهر أن الإصابات في حوادث السيارات من الخطأ المحض غالبا، لعدم قصد الجاني إصابة المجني عليه، و شبه العمد إنما يكون بقصد إصابته بما لا يوجب عادة الجناية الحاصلة.

و حينئذ لا موضوع لدعوي الإعسار من الجاني، لعدم كونه هو المطالب بالدية، بل المطالب بها عاقلته.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 155

س 47 بالنسبة إلي حقيقة الدية، يرجي الإجابة عن ما يلي..

أ.. هل الدية المجعولة من قبل الشارع الأقدس هي نوع من العقوبة و الجزاء، أو هي نحو من تدارك للخسارة؟

ج: المناسبات الارتكازية قاضية بأنها نحو من تدارك الخسارة.

و يناسبه أمور..

منها: ما تضمنته نصوص كثيرة من أنه لا يبطل دم امرئ مسلم، فإن بطلان الدم إنما هو بذهابه هدرا و ضياعا.

و منها: التعبير في جملة من النصوص بالضمان، كقوله عليه السّلام في صحيح الحلبي: «كل شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه» «1»، فإن الضمان تحمل الدرك و الخسارة. و لا سيما مع عموم الحكم للمال و للنفس و نحوها من ماله دية.

و منها: ثبوتها في الخطأ المحض، الذي لا منشأ معه للعقوبة.

و منها: ما في جملة من النصوص من أن دية المملوك قيمته، و لا سيما مع ما في بعضها من أنه يضرب القاتل مع العمد، كصحيح أبي بصير عن أحدهما عليهما السّلام في

حديث قال: «لا يقتل حر بعبد، و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم ثمنه، دية العبد» «2» فإن المنصرف منه أن الضرب للعقوبة،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 9 من أبواب موجبات الضمان حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 6 من أبواب ديات النفس حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 156

و الدية لتدارك الخسارة.

و منها: أن جناية العبد في رقبته، مع وضوح عدم العقوبة عليه بذلك، بل ليس فيه إلا تدارك الجناية.

و منها: اختلاف مقدار الدية في كثير من الجروح و نحوها بالشفاء من دون عيب، أو معه، مع وضوح أنه لا دخل للشفاء من دون عيب و عدمه في الجريمة و استحقاق العقوبة.

و ربما يظهر بالتأمل غير ما تقدم من ما يناسب المدعي. و إن كان وضوحه يغني عن تكلف ذلك.

نعم، قد يناسب ابتناءها علي العقوبة أن أمد دية العمد سنة، و أمد دية الخطأ ثلاث سنين، و أن دية شبه العمد علي الجاني، و دية الخطأ المحض علي العاقلة غالبا، و أن الدية تغلظ بزيادة الثلث إذا وقع القتل في الحرم، أو في الأشهر الحرم، و نحو ذلك.

إلا أنه لا مجال للخروج بذلك عن ما سبق. إذ لا مانع من البناء علي زيادة حرمة الشي ء في بعض الحالات الخاصة، بحيث يزيد دركه و ضمانه، أو تكون الزيادة- كالتعجيل في العمد- واردة مورد العقوبة، و إن كان أصل ثبوت الدية مبنيا علي تدارك الخسارة. و قد تقدم في جواب السؤال الرابع و الأربعين ما ينفع في المقام.

نعم، لما لم يكن الحكم المذكور عمليا لم ينفع قيام الحجج الشرعية عليه ما لم تبلغ مرتبة العلم، لانصراف أدلة الحجية لمقام العمل. و مع عدمه

مسائل

معاصرة في فقه القضاء، ص: 157

لا فائدة في الحجج إلا بمقدار تأثيرها في حصول العلم، الذي قد لا يحصل بها، كما قد يحصل من غيرها، من دون ضابط لذلك.

ب.. هل أن العمد و شبه العمد و الخطأ المحض في ذلك سواء؟

ج: نعم أصل الدية في الجميع علي نحو واحد، لعدم الفرق بينها في ما سبق. و إن تقدم احتمال كون بعض الخصوصيات فيها واردة مورد العقوبة.

كما أن ثبوت القصاص في العمد يبتني علي العقوبة الرادعة و التنكيل بالجاني، لوضوح عدم تدارك الخسارة به، و ابتنائه علي شدة التنكيل، المستلزم لقوة رادعيته، كما يناسبه قوله تعالي: وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1».

و مبني التنازل عن القصاص و الانتقال للدية علي رفع اليد عن العقوبة، و الاهتمام بتدارك الخسارة.

______________________________

(1) سورة البقرة الآية: 179.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 158

س 48 في صورة محكومية فاقد العضو المماثل بالقصاص، تفضلوا بالإجابة علي الحالات الآتية:

أ.. إذا كان القصاص من العضو السالم في مقابل غير السالم

، فهل يعتبر مثلا العضو السالم في ظاهره- كالعين الفاقدة للإبصار مع سلامة صورتها- فاسدا غير سالم أو يعتبر الشخص في هذه الحالة فاقدا للعضو؟

ج: لا مجال للبناء علي كون العضو المؤوف بحكم العدم. لعدم الدليل علي التنزيل المذكور.

ب.. إذا كان الجاني فاقدا للبصر في عينه اليمني و أتلف في هذه الحالة العين اليمني لشخص آخر

، فهل يمكن الاقتصاص منه بإتلاف عينه اليسري؟

ج: بعد ما سبق يظهر أن العين اليمني لا تعتبر مفقودة، و المتيقن من إلغاء خصوصية اليمين و اليسار صورة الفقد، كما يستفاد من الصحيح- المعول عليه عند الأصحاب- عن حبيب السجستاني: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل قطع يدين لرجلين، اليمينين. قال: فقال: يا حبيب تقطع يمينه للذي قطع يمينه أولا، و تقطع يساره للرجل الذي قطع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 159

يمينه أخيرا … » «1».

و صحيح محمد بن قيس: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أعور فقأ عين صحيح، فقال: تفقأ عينه، قلت: يبقي أعمي؟ قال: الحق أعماه» «2». فإن مقتضي إطلاقه ثبوت القصاص حتي لو كانت عينه التي يقتص منها غير مماثلة للعين التي جني عليها من حيثية اليمين و السيار. و لا شاهد بإلغاء الخصوصية المذكورة مع وجود المماثل إذا كان معيبا.

إن قلت: إلغاء خصوصية اليمين و اليسار هو المستفاد من إطلاق بعض أدلة القصاص، كقوله تعالي: وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصٰاصٌ … «3».

و ما في كثير من النصوص من إطلاق التقاصّ في العين و اليد و الإصبع و غيرها، من دون إشارة لخصوصية اليمين و اليسار.

غاية الأمر أن مقتضي حديث حبيب المتقدم لزوم مراعاة الخصوصية المذكورة في مورده، و لذا أمر بقطع اليمين للذي قطع يمينه

أولا، و المتيقن من ذلك ما إذا كان المماثل في الجهة مماثلا من بقية الجهات، و لا يشمل ما نحن فيه من فرض كونه مؤوفا لا يتحقق به القصاص التام، لكونه دون العضو المجني عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 12 من أبواب قصاص الطرف حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 15 من أبواب قصاص الطرف حديث: 1.

(3) سورة المائدة الآية: 45.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 160

و حينئذ يتعين إلغاء خصوصية اليمين و اليسار من أجل الحفاظ علي المماثلة من بقية الجهات، فيفقأ عينه اليسري الصحيحة في مورد السؤال، عملا بالإطلاق المتقدم، و تحقيقا للقصاص التام.

قلت: يشكل استفادة إلغاء خصوصية اليمين و اليسار من إطلاق تلك الأدلة، لأن المتيقن ورود الإطلاق المذكور لبيان التقاصّ من حيثية نوع العضو، من دون نظر للجهات الأخري، التي يتوقف عليها التقاصّ.

فإن الظاهر المفروغية عن مراعاة تلك الجهات مع الإمكان، لا من جهة حديث حبيب المتقدم، بل تبعا للمرتكزات العامة في سائر الموارد. بل لا إشكال ظاهرا في مراعاة المماثلة في الأسنان، فلا يقتص للمقدم بالطواحن مثلا، مع إطلاق تلك الأدلة بالتقاصّ في السن.

و بعبارة أخري: ارتكاز ابتناء القصاص علي مجازاة الاعتداء بالمثل يوجب انصراف إطلاق المماثلة في النوع لبيان ثبوت القصاص من جهته، من دون إلغاء لبقية الجهات الدخيلة في المماثلة عرفا. غاية الأمر أنها قد تسقط في صورة فقد المماثل، و لم يثبت سقوطها في صورة كونه مؤوفا، كما سبق.

ج.. في الفرض المذكور، إذا لم يقتصّ بإتلاف العين اليسري المبصرة للجاني

، فهل يقتصّ بإتلاف عينه المؤوفة مع أخذ الدية بالنسبة إلي فقد الإبصار أو يتعين وجه آخر؟

ج: من الظاهر أن دية المنفعة- كالإبصار و السمع و الشم- تتداخل

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 161

مع دية العضو

المشتمل عليها، فدية العين بجملتها نصف دية النفس، و دية إبصارها مع بقائها نصف دية النفس أيضا. و ليس للعين و إبصارها ديتان، ليكتفي بالقصاص في أحدهما، و الدية في الآخر.

نعم، دية العين الفاقدة للبصر ثلث دية العين التامة، كما هو الحال في سائر الأعضاء المشلولة. و حينئذ قد يدعي لزوم ردّ فرق ما بين العضوين بعد القصاص بينهما.

ففي المقام يتلف العين اليمني الفاقدة للبصر قصاصا، و يرجع بفرق دية ما بين العينين، و هو ثلثا دية العين، نظير ما ورد من أن في إتلاف عين الأعور دية كاملة، حيث يكون للمجني عليه القصاص بإتلاف إحدي عيني الجاني الصحيحة و أخذ فرق ما بين ديتي العينين، و هو نصف الدية، كما تضمن ذلك صحيح محمد بن قيس: «قال أبو جعفر عليه السّلام: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل أعور أصيبت عينه الصحيحة ففقئت أن تفقأ إحدي عيني صاحبه و يعقل له نصف الدية، و إن شاء أخذ دية كاملة و يعفي عن عين صاحبه» «1»، و قريب منه خبر عبد اللّه بن الحكم «2».

لكن ذلك و إن ثبت بنحو العموم فيما إذا كان المقتص منه أكثر دية من المقتص له، كما في اقتصاص المرأة من الرجل في النفس و الطرف، و الاقتصاص من المشتركين في قتل شخص واحد و غير ذلك، إلا أنه لم يثبت بنحو العموم فيما إذا كان المقتص منه أقل دية من المقتص له، و إنما ثبت

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 17 من أبواب قصاص الطرف حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 15 من أبواب قصاص الطرف حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 162

في بعض الموارد كما سبق،

و ثبت عدمه في بعضها الآخر، كما في الاقتصاص للرجل من المرأة حيث يقتصر فيه علي القصاص من دون أن يأخذ المقتص فاضل الدية.

و من ثم لا مجال للبناء عليه في المقام بعد عدم الدليل عليه بالخصوص.

بل يتعين إما الاقتصار علي القصاص بإتلاف العين اليمني المؤوفة، أو أخذ دية العين المجني عليها.

س 49 إذا قطع شخص ما اليد اليمني لشخص آخر، و كان الجاني فاقدا ليده اليمني فحينئذ تقطع اليسري

، و إذا كان فاقدا لليسري أيضا فتقطع قدمه.

و السؤال حينئذ هو هل يمكن إجراء هذا الحكم أيضا في مورد القدم و سائر الأعضاء الزوجية، مثلا: إذا كان الجاني فاقدا للقدم الأيمن و قطع في هذه الحالة القدم الأيمن لشخص آخر، فهل يمكن هنا أيضا في صورة فقدان قدمه اليسري أن تقطع يده؟

ج: تقدم في جواب السؤال السابع و الأربعين إلغاء خصوصية اليمين و اليسار في القصاص عند فقد المماثل. أما إلغاء خصوصية اليد و الرجل فلا مجال له بعد عدم صدق القصاص به.

نعم، في الصحيح عن حبيب السجستاني عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 163

«فأما يا حبيب حقوق المسلمين فإنه تؤخذ لهم حقوقهم في القصاص اليد باليد إذا كانت للقاطع يد [يدان] و الرجل باليد إن لم يكن للقاطع يد» «1».

و الحديث و إن كان معتبرا- و لو بضميمة عمل الأصحاب به- إلا أنه مختص بقطع الرجل قصاصا عن اليد، دون العكس، الذي هو محل الكلام.

بل يتعين الرجوع فيه للقاعدة المقتضية لتعذر القصاص، و الرجوع للدية.

س 50 في موارد قصاص الأطراف، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل تكون المماثلة في هذا الحال نسبية أو عرفية؟ و ما هو معيار كل منهما؟

ج: المتبع عموما هو المماثلة العرفية. لأن مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة الأحكام في سائر الموارد- و منها المقام- هو الرجوع في تحديد الموضوع للعرف. و لا مجال لتحديد المماثلة العرفية إلا بالرجوع للعرف في كل مورد مورد.

علي أن المماثلة قد تسقط في بعض الموارد، كما ذكرناه في كتاب القصاص و الديات من الجزء الثالث من رسالتنا (منهاج الصالحين). و لا يسعنا استقصاء تلك الموارد في هذه العجالة. و قد سبق بعض الكلام فيها في جواب السؤال السابع و الأربعين. فراجع.

ب.. في أي حالة يتبدل القصاص إلي الدية؟

ج: في حالات كثيرة لا يسعنا استقصاؤها هنا. و قد تقدم في جواب السؤال الخامس عشر و يأتي في جواب السؤال الواحد و الخمسين الإشارة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 12 من أبواب قصاص الطرف حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 164

إلي لزوم الانتقال للدية مع عدم انضباط الجرح أو لزوم التغرير من القصاص. كما تقدم في جواب السؤال الثلاثين الانتقال للدية أيضا. مع عدم تعيين القاتل بشخصه، و تردده بين شخصين أو أكثر.

و قد ذكرنا كثيرا من الموارد التي ينتقل فيها للدية في كتاب القصاص و الديات من الجزء الثالث من رسالتنا (منهاج الصالحين).

ج.. هل يعتبر في إجراء القصاص الطول و العرض و العمق؟

فمثلا إذا كان الجاني ضعيف البنية و كان المجني عليه عظيما و كان نصف كتف المجني عليه بعمق (3 سم) قد شقّ بالجرح الذي أصيب به. فهل القصاص بشق نصف كتف الجاني الذي يساوي (2 سم) أو يقتص منه بمقدار (3 سم) الذي يكون أكثر من نصف كتفه؟

ج: المماثلة عرفا في أمثال ذلك إنما تكون بلحاظ مساحة الجرح، لا بلحاظ نسبته لبدن المجني عليه. فللمجني عليه الاقتصاص بنفس المساحة مع تحقق موضوعه بالإضافة للجاني المقتص منه.

نعم، مع عدم تحققه يتعين الاقتصار علي ما تحقق موضوعه، كما لو كان المجني عليه مكتنز اللحم و الجاني نحيفا، و كانت الجناية علي اللحم عميقة، بحيث لو أراد المجني عليه الاقتصاص بنفس العمق لزم حزّ العظم، فإنه لا يجوز حزّ العظم، لأنها جناية أخري عرفا.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 165

س 51 بالنسبة إلي المجرم الذي يجب أن يلقي عليه القبض، و وجد في مكة المكرمة، يرجي التفضل بالإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يمكن إلقاء القبض عليه في الحالة المذكورة؟

ج: لا مجال لذلك إذا كانت جنايته خارج الحرم ثم لجأ للحرم.

للنصوص الكثيرة المتضمنة للتضييق عليه و ترك إطعامه و سقيه و مبايعته و مكالمته حتي يخرج من الحرم، و تقام عليه العقوبة خارجه «1».

لقوة ظهورها في عدم جواز أخذه و إخراجه رغما عليه، و لا سيما مع التصريح في بعضها بأنه لا يؤذي ما دام في الحرم «2»، و مع ورود بعضها- كما يأتي- في تفسير قوله تعالي: وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً «3». لوضوح أن إلقاء القبض عليه إيذاء له، و مناف لأمنه.

بل صرح في بعضها بأنه لا يؤخذ ما دام في الحرم، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عز و جل: وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً قال: إذا أحدث العبد في غير الحرم جناية ثم فرّ إلي الحرم لم

يسع لأحد أن يأخذه في الحرم. و لكن يمنع من السوق و لا يبايع و لا يطعم و لا يسقي و لا

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 14 من أبواب مقدمات الطواف و ما يتبعها، و ج: 18 باب: 34 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة.

(2) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 14 من أبواب مقدمات الطواف و ما يتبعها حديث: 1، 4.

(3) سورة آل عمران الآية: 97.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 166

يكلم، فإنه إذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ. و إذا جني في الحرم جناية أقيم عليه الحدّ في الحرم، لأنه لم يرع للحرم حرمة» «1»، و نحوه في ذلك معتبر علي بن أبي حمزة 2، و غيره.

نعم، في صحيح البزنطي المروي في قرب الإسناد عن الرضا عليه السّلام:

«سأله صفوان و أنا حاضر عن الرجل يؤدب مملوكه في الحرم، فقال:

كان أبو جعفر عليه السّلام يضرب فسطاطه في حدّ الحرم بعض أطنابه في الحرم و بعضها في الحلّ، فإذا أراد أن يؤدب بعض خدمه أخرجه من الحرم فأدبه في الحلّ» 3.

و مقتضاه أن المحرّم هو إيقاع العقاب في الحرم، دون أخذ من يستحقه في الحرم و إخراجه منه لإيقاع العقاب عليه في الحلّ، فينافي ما سبق.

و لكنه يشكل..

أولا: بأن إخراج الخادم من الحرم قد لا يكون بأخذه و إخراجه رغما عليه، لينافي ما سبق، بل بأمره بالخروج من أجل تأديبه، فيخرج باختياره امتثالا لأمره عليه السّلام.

و ثانيا: بأن الصحيح سؤالا و جوابا غير ناظر إلي محل الكلام من جناية الجاني في الحلّ و لجوئه للحرم، بل إلي مجرد مباشرة التأديب في الحرم، بنحو يشمل ما لو كانت الجناية في الحرم أيضا، بل لعل

ذلك هو المنصرف منه، و حيث سبق في النصوص جواز العقوبة حينئذ في الحرم، فلا بد من

______________________________

(1) 1، 2، 3 وسائل الشيعة ج: 9 باب: 14 من أبواب مقدمات الطواف و ما يتبعها حديث: 2، 3، 8.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 167

حمل الصحيح علي مجرد رجحان مباشرة التأديب خارج الحرم من دون نظر إلي حكم لجوء الجاني من الحلّ للحرم.

و لا سيما مع أن الحكم لو كان مبنيا علي الإلزام لكان المناسب الجواب بالتحريم، و عدم الاكتفاء ببيان عمل الإمام عليه السّلام المختص ببعض الفروض، و هو نزول المكلف في حدّ الحرم بحيث يسهل عليه الخروج منه للحلّ.

و أما مرسل العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه تعالي: وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً، قال: يأمن فيه كل خائف ما لم يكن عليه حدّ من حدود اللّه ينبغي أن يؤخذ به. قلت: فيأمن فيه من حارب اللّه و رسوله و سعي في الأرض فسادا؟ قال: هو مثل من مكر [يكرّ. خ. ل] في الطريق، فيأخذ الشاة و الشي ء، فيصنع به الإمام ما يشاء» «1».

فهو- مع ضعفه في نفسه. و كون مقتضي إطلاقه جواز إقامة الحدّ عليه في الحرم، و هو أجنبي عن مورد السؤال- محمول علي من فعل ما يوجب الحدّ في الحرم، أو علي خوفه بلحاظ أصل استحقاق الحدّ عليه، و إن لزم تركه و التضييق عليه حتي يخرج من الحرم جمعا مع النصوص السابقة.

هذا و مما تقدم يظهر أن من جني الجناية في الحرم جاز أخذه و إقامة العقاب عليه فيه، للتصريح بذلك في النصوص الكثيرة، و منها صحيح الحلبي المتقدم، و صحيح معاوية بن عمار

الآتي.

لكن في موثق سماعة: «سألته عن الإيمان و الإسلام. قال: مثل الإيمان

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 14 من أبواب مقدمات الطواف و ما يتبعها حديث: 11.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 168

من الإسلام مثل الكعبة من الحرم … و لو أن رجلا دخل الكعبة فبال فيها معاندا أخرج من الكعبة و من الحرم و ضربت عنقه» «1»، و نحوه أو عينه مرسل الفقيه 2، و مقتضاه عدم إقامة الحدّ عليه في الحرم و إن كانت جنايته فيه. و من ثمّ قال في الجواهر: «و لعله الأحوط و الأولي».

إلا أنه حيث كان في ذلك مخالفا لصريح النصوص السابقة، تعين حمله علي الاستحباب. أو الاقتصار علي مورده، لاحتمال كون الفعل المذكور موجبا لصيرورته كالمرتد الكافر، الذي قيل بوجوب إخراجه من الحرم، أو كون ذلك من تمام حدّه و عقوبته، و إن جاز إقامة بقية الحدود في الحرم.

ب.. هل يمكن التفريق بين أنواع الجرائم في ذلك: السرقة، القتل، الدين، التجسس، بيع المخدرات، المحاربة، الفساد في الأرض؟

ج: الظاهر عدم الفرق بين جميع الجرائم الشرعية، لأن أكثر النصوص و إن تضمنت الحدّ، إلا أنه يتعين أحد أمرين:

الأول: حمل الحدّ علي مطلق التنكيل و العقاب، كما يناسبه صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قتل رجلا في الحلّ، ثم دخل الحرم. فقال: لا يقتل و لا يطعم و لا يسقي و لا يباع و لا يؤذي حتي يخرج من الحرم، فيقام عليه الحدّ. قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال: يقام عليه الحدّ في الحرم صاغرا، لأنه لم ير للحرم حرمة … » 3،

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 9 باب: 46 من أبواب مقدمات الطواف و ما يتبعها حديث: 2، 3.

(2) 3 وسائل الشيعة ج: 9 باب:

14 من أبواب مقدمات الطواف و ما يتبعها حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 169

حيث أطلق فيه الحدّ علي القصاص، كما قد يناسبه أيضا إطلاق الجناية في أكثر النصوص ثم التعبير فيها بالحدّ.

الثاني: إلغاء خصوصية الحدّ و التعدي لكل عقوبة، كما يناسبه ظهور ابتناء الحكم علي حرمة الحرم، و ما في صحيح الحلبي المتقدم و معتبر علي بن أبي حمزة المتقدمة إليه الإشارة و غيرهما من ورود المضمون المذكور في تفسير قوله تعالي: وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً «1».

نعم، يشكل عموم الحكم للدّين. لعدم كونه جناية، و عدم ثبوت العقوبة عليه، غايته طلب وفاء الدين مع القدرة، أو التوثق له، و ليسا هما من سنخ العقوبة و الجزاء، و لا يكون الأخذ لأجلهما منافيا للأمن.

نعم، لو امتنع من الوفاء مع القدرة حبس، و عوقب. إلا أن الجناية- و هي الامتناع- لما حصلت منه في الحرم، جاز الأخذ و العقوبة عليها فيه.

ج.. هل يمكن التفريق بين الحرم و البيت الحرم في ذلك؟

ج: لا مجال للفرق بالنظر للنصوص المانعة التي جري عليها الأصحاب رضي اللّه عنهم. بل حمل تلك النصوص علي خصوص المسجد الحرام متعذر عرفا.

نعم، لو قيل بجواز الأخذ أمكن البناء علي عدمه في المسجد الحرام، لتأكد حرمته و إن احتاج للدليل.

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية: 97.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 170

د.. هل يمكن التفريق بين المسلم و الكافر الكتابي؟

ج: لا مجال للتفريق بعد إطلاق الأدلة.

نعم، هو مبني علي جواز دخول الكافر الحرم، أما بناء علي منعه من ذلك فيجوز أخذه، لجواز إخراجه- بل وجوبه- حينئذ. بل يكون دخوله جناية في الحرم، و معها يجوز الأخذ و العقوبة فيه.

إذا عرفت هذا فقد أصرّ الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و العلامة في التذكرة علي عدم دخوله الحرم حتي اجتيازا، لقوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ … «1». و هو مبني علي أن المراد من المشركين ما يعمّ أهل الكتاب، و أن المراد من المسجد الحرام جميع الحرم. و كلاهما لا يخلو عن إشكال، بل منع.

و قد يستدل علي الأول- و هو عموم المشركين لأهل الكتاب- بنسبة الشرك لهم في قوله تعالي: وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰاريٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰي يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وٰاحِداً لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «2».

______________________________

(1) سورة التوبة الآية: 28.

(2) سورة التوبة الآية: 30، 31.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 171

لكنه يندفع بأن الحكم عليهم في الآية

بالشرك إن كان من أجل نسبتهم الولد له تعالي فليس هو علي نحو الحقيقة، لأن مجرد نسبة الولد ليس شركا. و كذا إن كان من أجل اتخاذهم أحبارهم و رهبانهم أربابا. إذ لا يراد به إشراكهم به تعالي في الألوهية و العبادة، بل في الطاعة، كما في صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في قول اللّه عز و جل: اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ. فقال: و اللّه ما صاموا لهم و لا صلوا لهم، و لكن أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فاتبعوهم» «1».

نعم، لا إشكال في ابتناء التثليث عند طائفة من النصاري علي نحو من الشرك. و كذا ما ينسب للمجوس من القول بألوهية يزدان و أهرمن، أو النور و الظلمة.

إلا أنه- مع عدم اطراده في جميع أهل الكتاب- مخالف للظاهر من المشركين في الآية المتقدمة، بضميمة الآيات الكثيرة المتضمنة مقابلة أهل الكتاب و المجوس للمشركين، و خصوص ما في سورة التوبة من افتتاحها بالبراءة من المشركين و تتابع أحكامهم فيها بما في ذلك الحكم الذي تضمنته هذه الآية، ثم التعرض لحكم أهل الكتاب و الاكتفاء منهم بالجزية.

و مثله الاستدلال علي الثاني- و هو عموم المسجد الحرام لجميع الحرم- بقوله تعالي في ذيل الآية المتقدمة: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ، بدعوي: أنهم خافوا العيلة لعدم جلب المشركين الميرة للحرم، أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب صفات القاضي حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 172

لعدم دخولهم له. و بقوله عز اسمه: سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْريٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ إِلَي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَي «1»، بدعوي: أن الإسراء لم يكن من المسجد،

بل من دار أم هاني.

لاندفاعه: بأن خوف العيلة من عدم جلب المشركين الميرة للحرم أو من عدم دخولهم له- لو تم- لا يشهد بأن المراد من المسجد الحرام الحرم، إذ من القريب أن يكون دخول المشركين للحرم و جلبهم الميرة له بالنحو الذي ينعش اقتصاد أهل مكة إنما يكون إذا قدروا علي دخول المسجد الحرام في الحج و العمرة و الطواف بالبيت، فمع منعهم من دخول المسجد ينقطعون عن الورود للحرم و جلب الميرة له، لعدم غرض لهم في ذلك، لا لمنعهم منه.

كما أن إسراءه صلي اللّه عليه و آله و سلم من بيت أم هاني لا يستلزم كون المراد بالمسجد الحرام في آية الإسراء هو الحرم، بل قد يبتني علي المجاز في النسبة للمجاورة.

علي أن إرادة الحرم من المسجد الحرام في آية الإسراء لا يستلزم إرادته منه في آية منع المشركين من دخوله بعد أن كان مخالفا للظاهر في نفسه.

و من هنا لا مجال لاستفادة المنع من الآية الشريفة.

هذا و قد يظهر من بعض كلماتهم الإجماع عليه. إلا أن تحصيله و التعويل عليه في غاية الإشكال بعد عدم وضوح أخذ هذا الحكم من الأئمة عليهم السّلام عند ظهورهم لا قولا و لا عملا، بسبب غلبة المستولين من حكام الجور و الرجوع إليهم في ذلك من دون مراعاة لقولهم عليهم السّلام، فيصعب معرفة رأيهم عليهم السّلام علي حقيقته.

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 173

نعم، لمّا كانت حرمة الكتابي مشروطة بقيامه بشروط الذمة، فإذا منعه من إليه إعطاء الذمة من دخول الحرم مطلقا أو عند قيامه بالجريمة لا يكون دخوله مشروعا، بل يكون مسقطا لحرمته، فيجوز أخذه و إخراجه منه، لإجراء الحدّ

عليه.

ه-. هل يمكن التفريق بين من لجأ إلي مكة و من مرّ بها صدفة؟

ج: لا مجال للتفريق بذلك بعد إطلاق بعض النصوص، و لا سيما مع ورود بعضها في تفسير قوله تعالي: وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً «1». حيث يظهر منها أن المعيار الدخول، لا اللجوء.

س 52 بالنسبة إلي المجرم المريض، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل يمكن للحاكم الشرعي أن ينفذ الحكم الصادر بحق المريض في حال مرضه، أو ينتظر به حال الصحة؟

ج: إن كان العقاب المحكوم به قتلا لم يكن المرض مانعا من تنفيذه- بعد قصور النصوص الآتية عنه- كما صرح به الأصحاب. عملا بإطلاق أدلته القاضية بجواز إيقاعه حال المرض.

بل يجب ذلك، لإطلاق دليل تعجيل الحدود، و هو موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السّلام في حديث قال: «ليس في الحدود نظر ساعة» «2».

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية: 97.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 25 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 174

علي أن ذلك هو المنصرف من إطلاق أدلة الحدود، بعد كونها من سنخ العقوبة الرادعة، حيث يناسب ذلك تعجيلها. بل لو خيف فوتها بالموت كان التعجيل واجبا عقلا، لإحراز الامتثال.

و أظهر من ذلك ما لو كان القتل حقا للغير- كالقصاص- و طالب به صاحبه. لأن مقتضي سلطنته علي حقه تعجيله لو أراده.

و إن كان العقاب المحكوم به دون القتل..

فتارة: لا يكون المرض دخيلا في تعرض المحكوم للخطر أو لزيادة المرض بتنفيذ الحكم فيه.

و أخري: يكون المرض دخيلا في تعرض المحكوم لذلك بتنفيذ الحكم فيه.

أما في الأول فلا يكون المرض مانعا أيضا من التنفيذ. لما سبق، بعد قصور الأدلة الآتية عنه أيضا، لأنها بين ما ورد في واقعة خاصة لا إطلاق فيها- كنصوص المريض بالاستسقاء- أو في مرض خاص يخشي من الجلد معه- كالاستحاضة- و ما تضمن تخوّف استفحال المرض، و كلاهما قاصر عن المقام.

و أما في الثاني فالأحوط، بل الأظهر،

التفصيل فيه بين ما يتوقع الشفاء منه، و ما لا يتوقع الشفاء منه. ففي الأول ينتظر بالتنفيذ الشفاء، و في الثاني يستبدل العدد المطلوب من الجلد بالضرب مرة بشمراخ فيه عيدان بقدر ذلك العدد. لأن النصوص علي طائفتين:

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 175

الأولي: ما تضمن انتظار الشفاء، كموثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يقام الحدّ علي المستحاضة حتي ينقطع الدم عنها» «1»، و موثقة عنه عليه السّلام: «قال: أتي أمير المؤمنين عليه السّلام برجل أصاب حدّا و به قروح في جسده كثيرة، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أقروه حتي تبرأ، لا تنكئوها عليه فتقتلوه» 2، و نحوه خبر مسمع 3.

الثانية: ما تضمن الضرب بالشمراخ، كموثق أبي العباس أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أتي رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم برجل دميم قصير قد سقي بطنه و قد درت عروق بطنه فجر بامرأة … فصعّد رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم بصره و خفضه ثم دعا بعذق فعدّه مائة، ثم ضربه بشماريخه» 4، و نحوه غيره 5.

و قد جمع الأصحاب بينهما بإرجاع الأمر للحاكم، ليختار ما هو الأصلح من الوجهين، و لو لخوف فوت الحدّ. قال في الشرائع: «و يرجم المريض و المستحاضة. و لا يجلد أحدهما إذا لم يجب قتله و لا رجمه، توقيا من السراية، و يتوقع بها البرء. و إن اقتضت المصلحة التعجيل ضرب بالضغث المشتمل علي العدد».

و قد استدل في الجواهر للأول بالطائفة الأولي، و للثاني بالطائفة الثانية، ثم قال: «لكن ليس فيها اعتبار المصلحة، إلا أن الأصحاب حملوها علي ذلك من غير خلاف بينهم، جمعا بينها

و بين ما تقدم بخوف فوات الحدّ و عدمه».

______________________________

(1) 1، 2، 3 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 3، 4، 6.

(2) 4 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 5.

(3) 5 وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1، 7، 9.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 176

و كأن مراده بالمصلحة خوف فوات الحد بالتأخير، لعدم رجاء البرء.

و كيف كان، فالحمل المذكور قد يستفاد من المورد- و هو المستحاضة- و من الأمر بالانتظار لحين الشفاء في الطائفة الأولي، لظهوره في توقع الشفاء، و من المورد في الثانية، لأن الاستسقاء ليس من شأنه الشفاء.

مضافا إلي أن ذلك هو مقتضي القاعدة، لوضوح أن الضرب بالضغث من سنخ البدل الاضطراري الذي لا يلجأ إليه إلا عند تعذر الحدّ الاختياري بعدم توقع الشفاء.

نعم، في مرسل الصدوق عن موسي بن بكر عن زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لو أن رجلا أخذ حزمة من قضبان أو أصلا فيه قضبان فضربه ضربة واحدة أجزأه عن عدة ما يريد أن يجلد من عدة القضبان» «1». و قد يدعي أن مقتضي إطلاقه أنه بدل اختياري.

لكن الظاهر إجماله، لعدم وضوح مرجع الضمير في قوله: «فضربه»، إذ كما يمكن حمله علي مستحق الجلد، فيتم إطلاقه، يمكن حمله علي خصوص المريض. بل هو المتعين بعد تعذر إرادة الإطلاق بالنظر إلي إطباق أدلة الجلد علي تعدده بنحو يتعذر حملها عرفا علي التخيير. و كذا كلمات الأصحاب رضي اللّه عنهم.

و قد يسهل الأمر بعد ضعف الحديث بالإرسال، لعدم ذكر الصدوق في المشيخة طريقه إلي موسي بن بكر.

______________________________

(1)

وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 8.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 177

ب.. بناء علي لزوم التأخير حتي حصول الشفاء، يرجي الإجابة عن ما يلي:

1- ما هو المقصود من المرض في المقام؟

هل المقصود منه المرض العرفي، أو الذي هو مرض بحسب عرف الأطباء، أو هو مفهوم ثالث؟

ج: المفهوم من المرض في سائر الموارد هو المرض العرفي.

إلا أن قوله عليه السّلام في موثق السكوني: «لا تنكئوها عليه فتقتلوه» ظاهر في أن المعيار كون إقامة الحدّ مظنة للخطر علي الحياة.

و تشخيص ذلك موكول للطبيب. لعموم السيرة الارتكازية علي الرجوع لأهل الخبرة الموثوقين في الأمور الحدسية.

2- هل الحيض و الاستحاضة و النفاس تعدّ من الأمراض؟

ج: لا إشكال في أن الاستحاضة تمنع من إقامة الحدّ، و ينتظر به انقطاعها، لموثق السكوني المتقدم. و أما النفاس و الحيض فالمعيار فيهما الخوف بالوجه المتقدم في جواب الفقرة السابقة، لعدم النص فيهما بالخصوص.

3- هل يفرق بين المرض الحاصل قبل صدور الحكم و الحاصل بعده؟

ج: لا يفرق بينهما. لإطلاق موثق السكوني المتقدم في المستحاضة،

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 178

و عموم التعليل في موثقة الآخر المتقدم.

4- هل يفرق بين المرض الذي أصيب به المحكوم بشكل اعتيادي و ما أوقعه المحكوم بنفسه؟

ج: لا يفرق بينهما، عملا بإطلاق الأدلة.

و دعوي: أن التخفيف لما كان واردا مورد الإرفاق بالمحكوم فإطلاقاته تنصرف عما إذا كان المحكوم هو الذي أوقع المرض بنفسه.

مدفوعة: بأن التخفيف ليس لمجرد الإرفاق بالمحكوم، بل لاحترام حياته، و ليس هو من حقوقه التابعة له القابلة للسقوط بتفريطه، ليتجه النظر في انصراف الإطلاقات عن صورة إيقاعه المرض بنفسه.

5- هل يختلف الحال بين المرض الثابت كالسرطان، و المؤقت كالآلام؟

ج: تقدم أن الثابت ينتقل فيه للبدل الاضطراري، و المؤقت ينتظر به الشفاء.

نعم، لا بد فيهما معا من أن تكون إقامة الحدّ معرضة لحياة المحكوم للخطر.

و ربما ألحق بذلك ما إذا كانت إقامة الحدّ موجبة لزيادة المرض بوجه معتد به بنحو يبعد عدم اهتمام الشارع الأقدس بتجنبه.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 179

6- في العوارض المؤقتة و الزائلة، هل يفرق الحال بين الأمراض التي يحتاج زوالها إلي وقت كثير- كالسل و نحوه

و الأمراض السريعة الزوال- كالحمي و ضربة البرد- و نحوهما؟

ج: يظهر الجواب عنه مما سبق في جواب الفقرة (أ).

نعم، إذا كان الشفاء بطيئا جدا و معقدا، بحيث يتوقع معه حدوث المضاعفات المانعة من إقامة الحدّ التام حتي بعد الشفاء- كالضعف العام- فالظاهر الانتقال للبدل الاضطراري. لرجوعه في الحقيقة إلي اليأس من إقامة الحدّ التام.

7- هل يفرق الحكم بين الأمراض التي يحتاج علاجها إلي مصرف كثير- كجراحة القلب- و غيرها؟

ج: لا فرق في ذلك بعد إطلاق الأدلة المتقدمة.

8- ما هو الحكم في حالة إغماء المحكوم عليه؟

ج: أما القتل فالظاهر تنفيذه فيه. للوجه المتقدم.

نعم، يشكل معه تنفيذ الرجم، لما سبق في جواب السؤال الرابع و الثلاثين من ظهور أدلته في ابتنائه علي الإحساس بالألم. إلا أن يكون غير مانع من ذلك، بأن يكون الرمي موجبا لإفاقته و تجدد الإحساس له. أو

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 180

يكون ميؤوسا من إفاقته، فيكتفي حينئذ بالرجم من دون إحساس، لأنه الميسور.

و أما غير القتل فلا مجال للتعجيل به إن كان مظنة للخطر عليه، بل لا بد من انتظار شفائه، و إن كان ميؤوسا من شفائه تعين الاكتفاء بالبدل الاضطراري المتقدم، و هو الضرب بالشمراخ، لأنه الميسور.

و إن لم يكن مظنة للخطر عليه لم يبعد الانتظار به إذا كان جلدا، حيث يظهر من أدلته ابتناؤه علي الإيلام، فيلحقه ما تقدم في الرجم. و إن لم يكن جلدا- كقصاص الطرف و حدّ القطع- تعين عدم مانعية الإغماء منه.

و سيأتي تتمة الكلام في ذلك.

9- هل يفرق بين القصاص و الحكم بالإعدام في ذلك؟

ج: تنفذ عقوبتهما معا علي المريض. لما سبق من أن المرض لا يمنع من عقوبة القتل.

10- ما هو الحكم في الحدّ الذي يكون دون القتل، و في قصاص الأطراف؟

ج: الذي هو موضوع النصوص المتقدمة هو حدّ الجلد، لأنه هو الذي يستبدل بالجلد بالشمراخ. و يجري فيه التفصيل المتقدم. أما غيره- كحدّ القطع و قصاص الأطراف و غيرهما- فهو خارج عن موضوع تلك النصوص.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 181

نعم، يجب تأخيره مع خوف الخطر من التعجيل به و توقع الشفاء، لإلغاء خصوصية مورد النصوص المذكورة بعد ظهور التعليل المتقدم فيها في الاهتمام بحياة المحكوم بالعقوبة.

أما مع عدم توقع الشفاء بحيث يلزم من تأخير الحدّ تعطيله فالأمر لا يخلو عن إشكال بعد عدم ثبوت البدل الاضطراري له، و بعد ظهور اهتمام الشرع الأقدس بحياة المحكوم بالعقوبة، كما يظهر من النصوص السابقة و من الإجماع المدعي علي عدم القصاص في الجروح التي فيها تغرير، المؤيد أو المعتضد بما في مقطوعتي أبان و أبي حمزة «1» من عدم القصاص في الجائفة، و هي الجرح الذي يبلغ الجوف، و المأمومة، و هي الضربة التي تبلغ أم الرأس.

نعم، تضمن غير واحد من النصوص عدم الدية لمن قتله القصاص أو الحدّ ففي خبر الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سمعته يقول: من ضربناه حدا من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا، و من ضربناه حدا من حدود الناس فمات فإن ديته علينا» «2».

و في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام في حديث قال: «و من قتله القصاص فلا دية له» 3.

و في معتبره عن أبي جعفر عليه السّلام: «من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل و لا جراحة» 4 و نحوها غيرها.

______________________________

(1) وسائل

الشيعة ج: 19 باب: 16 من أبواب قصاص الطرف حديث: 1، 2.

(2) 2، 3، 4 وسائل الشيعة ج: 19 باب: 24 من أبواب قصاص النفس حديث: 3، 5، 8.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 182

لكن لا بد من حملها علي ما إذا لم يتوقع أداء القصاص أو الحدّ للموت، كما قد يناسبه تقييده بما إذا كان بأمر الإمام، حيث يكون هو المرجع في تشخيص إمكان القصاص. علي أن بعض النصوص الواردة بالألسنة المذكورة صريح في إرادة ما إذا كان الحدّ و القصاص بالقتل، فيكون أجنبيا عن ما نحن فيه فراجع.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم جواز القصاص مع خوف السراية، بل ينتقل إلي الدية. و أما الحدّ فمن البعيد جدا مشروعيته مع خوف السراية و إن لم يكن له بدل اختياري أو اضطراري، كالقطع في السرقة. بل الظاهر مزاحمة حرمة تعريض النفس للهلاك لوجوب إقامة الحدّ، بنحو تمنع منه لأهميتها.

11- في حالة الحكم بالإعدام و غيره، مصرف العلاج علي المحكوم أو علي الحكومة؟

ج: أما الإعدام فقد سبق أنه لا ينتظر به الشفاء، بل يجري علي المريض من دون حاجة لعلاجه، ليقع الكلام في نفقة العلاج.

و أما غيره ففي مورد وجوب الانتظار لا مجال لتحميل نفقة العلاج علي المحكوم و لا علي الدولة.

أما المحكوم فلأنه و إن وجب عليه الاستسلام للحكم الشرعي إذا كان قصاصا، لأنه حق للناس، فيحرم عليه منعهم منه، إلا أنه ليس بنحو يجب عليه تهيئة الظرف المناسب له، و رفع الموانع من تنفيذه، فضلا عن

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 183

تحمّل النفقات في سبيل ذلك.

و أظهر من ذلك ما لو كان الحكم حدّا، لعدم وضوح وجوب الاستسلام له، و حرمة الفرار منه بعد ثبوته عند الحاكم. و مجرد وجوب إقامته علي الحاكم و

حرمة تعطيله لا يستلزم ذلك في حق المحكوم نفسه أو غيره من المسلمين.

و أما الحكومة فلأنه و إن وجب عليها تنفيذ الحدّ أو القصاص مع مطالبة صاحبه به و ارتفاع الموانع عن وجوب إقامته، كالمرض في المقام، إلا أنه لا دليل علي وجوب رفع الموانع المذكورة عليها، فضلا عن تحمل النفقات في سبيل ذلك، لعدم وجوب تهيئة مقدمات الوجوب شرعا و لا عقلا.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 184

س 53 هل يمكن للحاكم الشرعي إجراء حدّ السرقة لمصالح معينة حتي إذا عفا المسروق منه عن السارق؟

ج: الذي صرح به الأصحاب رضي اللّه عنهم نفوذ عفو المسروق قبل الرفع للإمام، و عدم نفوذه بعد الرفع له، و نفي وجدان الخلاف فيه في الجواهر.

و يشهد بذلك صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المتضمن لسرقة رداء صفوان بن أمية، و فيه: «فقال النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم: اقطعوا يده. فقال الرجل: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: فأنا أهبه له. فقال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إلي. قلت:

فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: نعم. و سألته عن العفو قبل أن ينتهي إلي الإمام. فقال: حسن» «1».

و موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلي الإمام قطعه. فإن قال الذي سرق له: أنا أهبه له لم يدعه الإمام حتي يقطعه إذا رفع إليه، و إنما الهبة قبل أن يرفع إلي الإمام … » «2».

و في صحيح ضريس عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا يعفي عن الحدود التي للّه دون الإمام. فأما ما كان من حقّ الناس في حدّ فلا بأس بأن يعفي عنه دون الإمام» «3».

______________________________

(1)

وسائل الشيعة ج: 18 باب: 17 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 17 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 3 و متن الحديث اثبتناه عن الكافي.

(3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 18 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 185

و علي ذلك ليس للإمام- فضلا عن الحاكم الشرعي- أن يجري الحدّ مع عفو المالك قبل رفعه للإمام أو من يقوم مقامه، و لا له أن يترك الحدّ بعفوه بعد رفعه له.

س 54 إذا تقدم المسروق منه بالشكوي علي السارق، فهل يمكنه أن يعفو عن السارق قبل ثبوت الجرم. و بذلك يسقط الحدّ؟

ج: إنما يسقط الحدّ بذلك إذا لم يثبت الجرم بالبينة أو الإقرار. لكنه ليس لعفو المسروق عنه، بل لعدم ثبوت سبب الحدّ. أما بعد ثبوت الجرم بالإقرار أو البينة فلا أثر لعفو صاحب الحقّ، لأن النصوص المتقدمة إنما تضمنت نفوذ عفوه قبل الرفع للإمام، لا بعده قبل ثبوت الجرم عنده.

نعم، مع الإقرار فللإمام أن يعفو عن حدّ القطع في السرقة. بل قيل:

له العفو عن جميع الحدود. و إن كان الظاهر الاختصاص بحدّ السرقة، كما سبق تفصيل الكلام فيه في جواب السؤال العاشر.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 186

س 55 بالنسبة للسرقة..

أ.. ما هو حكم سرقة المعلومات السرية ذات الشفرة الخاصة من شبكات الكومبيوتر أو الكومبيوترات الخاصة؟ و ما هو حكم كشف رموزها و حلّها؟

ج: لا يصدق علي ذلك السرقة، فإن السرقة عرفا هي أخذ الشي ء من الغير و الاستيلاء عليه خارجا، و لا يصدق علي اكتشاف المعلومات.

و لا أقل من قصور أدلة حرمة السرقة- كعموم قاعدة السلطنة علي المال، و النصوص الكثيرة- عن ذلك، لاختصاصها بالأمور المادية، و التي من شأنها أن تحاز خارجا.

و كذا الحال في أدلة ثبوت الحدّ بالسرقة، و لو بلحاظ أخذ الحرز و النصاب فيه. حيث يفهم منها الحرز الخارجي بمثل الباب و القفل و كون المسروق من سنخ الأجسام.

أما مجرد محاولة الإنسان كتمان الشي ء بالتعمية عليه، و فشله في ذلك باكتشاف الآخرين له، فليس هو سرقة. و لذا لا إشكال في مباينة السرقة للتجسس عرفا و شرعا. و إطلاق السرقة عليه في العرف المعاصر يبتني علي التوسع و التسامح، و ليس هو معيارا في شمول الأدلة.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 187

ب.. ما هو حكم سرقة أرقام التليفونات المنقولة و بيعها بوجه غير قانوني؟

ج: مثل هذا لا يعدّ سرقة، و إنما هو تجاوز غير قانوني. و حينئذ لا يحرم إلا حين يكون القانون ملزما شرعا، أو يستلزم التصرف في الأجهزة- كالبدالات و نحوها- المملوكة لمحترم المال من غير إذنه أو يستلزم الإضرار بمن يحرم الإضرار به.

و أما الشراء غير القانوني فهو بنفسه لا ينفذ إذا كان القانون ملزما شرعا و كذا إذا كان مخالفا لشرط التعاقد مع شركة التليفونات، إذا كانت محترمة المال.

ج.. هل يجوز إجراء الحدّ إذا اجتمعت شرائطه في الحالات المتقدمة؟

ج: من ما سبق يظهر عدم تحقق موضوع الحدّ في ذلك، فضلا عن تحقق شرائطه، و منها الحرز.

س 56 بالنسبة إلي مدارات الأقمار الصناعية،

اشارة

حيث توجد منظمة دولية تخصص المدارات للدول، و من ثم تقوم الدول المعنية بوضع أقمارها في المدار المحدد لها، سواء كانت الأقمار من انتاجها أم مشتراة من دول أخري أم مؤجرة منها. و عليه يرجي الإجابة عن

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 188

ما يلي:

أ.. هل يكون المدار في الحالة المذكورة مملوكا أو متعلقا لحق الاختصاص؟

ج: لا يكون مدار الأقمار مملوكا و لا موردا لحق الاختصاص، لعدم شرعية قرار المنظمات الدولية بعد قيام كيانها من دول غير شرعية. علي أن ملكية الفضاء الخارجي في نفسه لا يخلو عن إشكال، بل منع. لاختصاص أدلة الحيازة بالأرض القابلة للإحياء و الفضاء التابع لها.

نعم، يحرم استعمالها بنحو يقتضي التصرف أو الإضرار بنفوس أو ممتلكات لجهات محترمة. لحرمة الإضرار بمن هو محترم الدم و المال.

و لمنافاته لقاعدة السلطنة في حق تلك الجهات.

ب.. هل تصح إجارتها أو وقفها من قبل الدول؟

ج: مما سبق يتضح عدم صحة الإجارة و الوقف، لأنهما فرع ملكية المؤجر و الواقف، أو سلطنتهما.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 189

س 57

أ.. هل تكون نفقة الشفاء من أثر إجراء الحدّ أو القصاص علي بيت المال أو علي الجاني المحكوم عليه؟

ج: نفقة ذلك علي الجاني أو من يباشر ذلك من من يهمه أمره. لعدم الدليل علي قيام غيره به، كبيت المال، أو غيره. و لا سيما في القصاص الذي هو حقّ ثبت عليه بسبب جناية لم يتحمل نفقة الشفاء من أثرها، كما أنه يجوز أن يستوفي منه من دون إذن الحاكم. و مجرد إشراف الحاكم عليه- لو حصل- لا يقتضي أداءه نفقة العلاج من بيت المال.

نعم، في جملة من النصوص قيام أمير المؤمنين عليه السّلام بمداواة السارق بعد قطعه، بنحو يظهر في إنفاقه عليه من بيت المال. منها معتبر حذيفة بن منصور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال أتي أمير المؤمنين عليه السّلام بسرّاق قد قامت عليهم البينة و أقرّوا، فقطع أيديهم، ثم قال: يا قنبر ضمّهم إليك فداو كلومهم و أحسن القيام عليهم، فإذا برءوا فأعلمني. فلما برءوا أتاه فقال:

يا أمير المؤمنين القوم الذين أقمت عليهم الحدود قد برئت جراحاتهم.

فقال: اذهب فاكس كل رجل منهم ثوبين و ائتني بهم … ثم قال: يا قنبر خلّ سبيلهم، و أعط كل واحد منهم ما يكفيه إلي بلده» «1».

و قد يظهر من الوسائل التعويل عليها في الحكم بوجوب العلاج و الإنفاق علي المحدود. بل صرح بوجوب العلاج بعض مشايخنا قدّس سرّه في مباني تكملة المنهاج.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 30 من أبواب حدّ السرقة حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 190

لكنها قد تضمنت قضية في واقعة قد يكون الغرض منها استصلاحهم و حملهم علي التوبة. و ربما كان السرّاق المذكورون منقطعين،

كما يناسبه ما في المعتبر المتقدم و غيره «1» من إكسائهم و إعطائهم ما يكفيهم إلي بلدهم، و ما في بعض النصوص من الأمر بإدخالهم دار الضيافة و إطعامهم السمن و العسل و اللحم «2».

و لعله لذا لم يعرف القول بوجوب ذلك من أصحابنا، بل في الجواهر:

«ليس ذلك بلازم للإمام عندنا».

نعم، قد يري ولي الأمر المصلحة في تحمّل نفقة العلاج من بيت المال، إما مع حاجة المحدود، أو مطلقا، لتيسر إتقان العلاج للدولة دون غيرها، أو للاستصلاح، أو لغير ذلك من العناوين الثانوية. و لا ضابط لذلك.

ب.. إذا قلنا بأنها علي بيت المال، فهل تكون النفقة التي يتحملها بيت المال مقتصرة علي العلاج اللازم في أول مراحله؟

ج: سبق عدم وجوب الإنفاق. أما لو بني علي استفادة الوجوب من النصوص المتقدمة فهي قد تضمنت العلاج حتي البرء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 30 من أبواب حدّ السرقة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 29 من أبواب حدّ السرقة حديث: 4، و باب: 30 من الأبواب المذكورة حديث: 1، 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 191

ج.. هل يفرق في الحكم المذكور بين الفقير و الغني؟

ج: سبق عدم وجوب الإنفاق. لكن لو بني علي استفادة الوجوب من النصوص المتقدمة فالمتيقن منها الفقير، بل المنقطع.

د.. هل يفرق بين الحدّ و القصاص في ذلك؟

ج: لا يفرق بينهما في عدم وجوب الإنفاق، كما سبق.

نعم، عدم الإنفاق في القصاص أظهر، كما أشرنا إليه آنفا. و لا سيما و أن النصوص المتقدمة مختصة بالحدّ، بل بخصوص حدّ السرقة.

س 58 في ما يتعلق بسقوط الحدّ بتوبة المجرم، يرجي الجواب عن ما يلي:

أ.. هل يعتبر التلفظ من قبل المجرم بلفظ دال علي التوبة كافيا لإسقاط الحدّ، أو لا بد من قيامه بعمل يدل علي تحقق توبته؟

ج: يظهر مما سبق في جواب السؤال العاشر أن التوبة إنما تسقط الحدّ في موارد..

الأول: المحارب. لقوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1». و المنصرف منه ظهور التوبة بترك

______________________________

(1) سورة المائدة الآية: 34.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 192

المحاربة قبل أن يقدر عليه الإمام و يأخذه.

الثاني: توبة السارق. لصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: السارق إذا جاء من قبل نفسه تائبا إلي اللّه عز و جل تردّ سرقته إلي صاحبها، و لا قطع عليه» «1». و المنصرف منه ظهور التوبة بمجيئه من قبل نفسه معلنا عما صدر منه من قبل أن يؤخذ و يقدر عليه.

الثالث: كل من فعل ما يوجب الحدّ، لصحيح جميل بن دراج عن رجل عن أحدهما عليهما السّلام: «في رجل سرق أو شرب الخمر أو زني فلم يعلم ذلك منه، و لم يؤخذ حتي تاب و صلح. فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ» «2»، بناء علي انجباره بعمل الأصحاب. و ظاهره اعتبار الصلاح بمضي مدة علي التوبة. و في الجميع لا يكفي التلفظ بما يدل علي التوبة، بل لا بد من عمل تظهر به التوبة.

ب.. هل يعتبر ثبوت التوبة قبل البينة كافيا، أو لا بد من إظهار التوبة أيضا عند الحاكم قبل إقامة البينة؟

ج: من ما سبق يظهر الاكتفاء بظهور التوبة قبل الوصول للحاكم.

ج.. هل يعتبر في سقوط الحدّ إحراز التوبة أو يكفي الشك فيها، لقاعدة أن الحدود تدرأ بالشبهات؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 16 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 193

ج: لا بد من إحراز التوبة، بل ظهورها بالسلوك و التصرفات المتقدمة، كما يستفاد من الأدلة السابقة. و مع الشك فيها فالمرجع استصحاب عدمها.

و قاعدة: الحدود تدرأ بالشبهات إن أريد بها ما تضمنته النصوص من عدم الحدّ علي من فعل موجبه جاهلا بالتحريم «1».

فهي أجنبية عن ما نحن فيه. و كذا إن أريد بها عدم إقامة الحدّ حتي يعلم الحاكم بشرعيته و ثبوته كبرويا التي هي مقتضي عموم قاعدة السلطنة في حق الفاعل و عموم احترام المسلم اللذين يجب الاقتصار في الخروج عنهما علي العلم بالتخصيص و مشروعية إقامة الحدّ.

و إن أريد بها عدم إقامة الحدّ حتي يعلم الحاكم بتحقق موجبه و موضوعه صغرويا، فاستصحاب عدم التوبة في المقام وارد عليها رافع لموضوعها، لعدم الشبهة معه.

و أما مرسل الصدوق: «قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: ادرءوا الحدود بالشبهات» «2» فهو لضعفه لا ينهض بالخروج عن ذلك. علي أن من القريب حمله علي المعني الأول.

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 18 باب: 14 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 24 من أبواب مقدمات الحدود و أحكامها العامة حديث: 4.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 194

س 59 إذا أمكن تحقق التعزير بطرق أخري غير الجلد

اشارة

- كالحبس، و الغرامة النقدية، و الحلق، و التشهير في المدينة، و إلغاء إجازة العمل، و إلغاء إجازة السياقة، و الحرمان من الوظائف الحكومية، و إثبات صفة سوء السابقة- فيرجي بلحاظ ذلك الإجابة عن ما يلي:

أ.. فهل أن تعبير (التعزير دون الحدّ) يكون بالإضافة إلي الجلد، أو يشمل الموارد الأخري المذكورة؟

ج: لا إشكال في اختصاص التعبير المذكور بالجلد، لظهور نسبة أحد الأمرين للآخر بالأقل أو الأكثر في ملاحظة جهة التكثر، و الحدّ الذي هو الموضوع للتكثر هو حدّ الجلد لا غير.

و من ثم كانت العبارة المذكورة شاهدة باختصاص التعزير بالجلد و عدم عمومه لغيره من العقوبات، و ببطلان الأمر الذي يبتني عليه السؤال.

ب.. إذا كان تعبير (التعزير دون الحدّ) يشمل الموارد الأخري فما هو ملاك دون الحدّ؟

ج: من ما سبق يظهر أنه لا ملاك له، لعدم شمول التعبير المذكور له.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 195

س 60 هل أن عقوبة الإعانة علي قتل العمد من حقوق الناس تسقط بعفو وليّ الدم،

أو هي من حقوق اللّه تعالي ينحصر حقّ العفو فيها بوليّ الأمر؟

ج: الظاهر أنها من حقوق اللّه تعالي، فهي من سنخ الحدّ، كما هو مقتضي إطلاق أدلتها. كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «في رجل أمر رجلا بقتل رجل [فقتله]. فقال: يقتل به الذي قتله، و يحبس الآمر بقتله في الحبس حتي يموت» «1».

و ما رواه الصدوق في الصحيح من قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

«و قضي عليه السّلام في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا. فقال: و هل عبد الرجل إلا كسيفه و سوطه؟! يقتل السيد به و يستودع العبد السجن حتي يموت» «2».

و موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أن ثلاثة نفر رفعوا إلي أمير المؤمنين عليه السّلام، واحد منهم أمسك رجلا، و أقبل الآخر فقتله، و الآخر يراهم.

فقضي في [صاحب] الرؤية أن تسمل عيناه، و في الذي أمسك أن يسجن حتي يموت، كما أمسكه، و قضي في الذي قتل أن يقتل» «3» و نحوها غيرها.

فإن مقتضي الإطلاقات المذكورة عدم إناطة العقوبات التي تضمنتها بوليّ الميت، بحيث تكون حقا له، و يكون إعمالها منوطا به. غاية الأمر أن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 13 من أبواب قصاص النفس حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 14 من أبواب قصاص النفس حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 17 من أبواب قصاص النفس حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 196

الأدلة تضمنت ذلك في خصوص القصاص و الدية اللذين هما من أحكام القاتل أو من يقوم مقامه، كالسيد الذي يأمر عبده

بالقتل، و لا وجه للتعدي للعقوبات الأخري في حقّ الآخرين.

كما أن الإطلاقات المذكورة قاضية بعدم سلطنة وليّ الأمر علي العفو.

و ما يظهر من السؤال من المفروغية عن سلطنته عليه لو كانت العقوبات المذكورة حقا للّه تعالي. في غير محله. و مجرد ثبوت جواز العفو في بعض الحدود في الجملة لا يستلزم عموم سلطنته عليه في جميع حقوق اللّه تعالي.

و قد سبق بعض الكلام في ذلك في جواب السؤال العاشر. فراجع.

نعم، لو فرض سلطنة وليّ الأمر علي فرض العقوبة كان أمرها بيده.

و كذا إذا كان ملاك العقوبة النهي عن المنكر. حيث يتعين الاقتصار علي ما يتحقق به الردع عنه بمقتضي تشخيص من له النهي عنه. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 197

س 61 لو اضطرت الدولة الإسلامية إلي عقد اتفاقية مع دولة غير إسلامية تتضمن التبادل بالمجرمين المحكومين بالحبس

اشارة

علي نحو تقوم الدولة الإسلامية بإعادة المواطنين التابعين للدولة غير الإسلامية إليها، ليكملوا محكوميتهم فيها، كما تقوم الدولة غير الإسلامية بالأمر المذكور نفسه بالنسبة إلي أتباع الدولة الإسلامية، فهنا تطرح عدة أسئلة، يرجي الإجابة عليها:

1.. هل يمكن للدولة الإسلامية إجراء أحكام القضاء التابع للدولة غير الإسلامية؟

ج: لا مجال لذلك بعد أن كان الحكم المذكور حكما بغير ما أنزل اللّه تعالي. و لا سيما إذا كان الشخص المحكوم مسلما، فإن الإسلام لا يعترف بالحدود المميزة بين المسلمين. و تقسيم البلاد الإسلامية إلي دول أمر حادث غير شرعي.

2.. إذا لم يكن للدولة الإسلامية تنفيذ الأحكام المذكورة، فيرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل تكون محاكم الدولة الإسلامية ملزمة بإعادة المحاكمة و إصدار الحكم علي أساس قوانين الدولة الإسلامية؟

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 198

ج: المحاكم الإسلامية ملزمة بمحاكمة الشخص وفق الأحكام الإسلامية، لأن وظيفتها الحكم بأحكام الإسلام. و لا عبرة بالأحكام السابقة الصادرة وفق قوانين الدولة غير الإسلامية بعد أن لم تكن الأحكام المذكورة تمتلك الشرعية.

ب.. نظرا لأهمية عقد مثل هذه الاتفاقية، هل بالإمكان أن ترشدونا إلي الصورة الشرعية لعقد مثل هذه الاتفاقية؟

ج: كيف يمكن ذلك مع ما هو المعلوم من شدة الإنكار من الشارع الأقدس علي الحكم بغير ما أنزل اللّه تعالي، حتي أطلق في القرآن الكريم علي من لم يحكم [بغير] بما أنزل اللّه تعالي أنهم ظالمون، و فاسقون، و كافرون؟

فكيف يمكن مع ذلك تسليم الحاكم المسلم الشخص الذي تحت قبضته و في حوزته لحاكم يحكم عليه بغير ما انزل اللّه تعالي؟!.

و إذا كانت فوائد إجراء مثل هذه الاتفاقيات خدمة النظام الإسلامي ماديا بسبب تنسيقه مع الأنظمة الأخري، فإنها لا تعادل أضراره المبدئية في الخروج عن ما حكم اللّه تعالي، و سلخه عن واقع الإسلام، و استيجاب الخذلان من اللّه تعالي و الوبال و النقمة و النكال.

ثم ما يستتبع ذلك من أضرار مادية علي الأمد البعيد، حيث يتجرد النظام تدريجيا من قدسيته التي بها يمتلك قلوب الرعية فتنشد إليه و تنسجم و تتفاعل معه. كما يمتلك بها قلوب المسلمين في أقطار الأرض، و يفوز بتأييدهم و دعمهم.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 199

و سوف يستعيض عن ذلك كله بنظرة الريب و الاشمئزاز و التوجس و التنفر، و وصمة الادعاء و التزوير، و ما يستتبع ذلك من مضاعفات خطيرة و ويلات لا يحيط بها القلم و لا يستقصيها البيان، ثم لا يمكن تداركها بعد أن تضرب بجرانها، و تستفحل، و تستحكم و تتجذر تدريجيا علي أرض الواقع.

و قد تقدم ما ينفع في المقام في جواب الأسئلة الثاني

و الثالث و الرابع و الثالث عشر و الثامن الثلاثين.

3.. لو افترضنا إمكان إجراء أحكام الحكومة غير الإسلامية فبالنظر إلي أن العقوبة في الدول غير الإسلامية منحصرة في السجن

، و لكنها بلحاظ مفردات و أحكام الدولة الإسلامية مختلفة، فيرجي الإجابة عن الفروع التالية:

أ. إذا كانت الجريمة توجب الحدّ الشرعي.

ب. إذا كانت الجريمة توجب الدية.

ج. إذا كانت الجريمة توجب الحبس.

د. إذا كانت الجريمة توجب التعزير.

ه. إذا كانت الجريمة توجب القصاص.

و. إذا كانت الجريمة لا تعتبر جريمة شرعا.

ج: لا موضوع لهذه الفروع بعد ما سبق من عدم جواز تطبيق الأحكام غير الإسلامية.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 200

4.. إذا كان المجرم من أتباع الدولة غير الإسلامية، و كان قد قام بالجريمة في الدولة الإسلامية

، و يقضي فيها مدة المحكومية بالسجن، هل يمكن للدولة الإسلامية في هذه الحالة أن تسلمه لحكومته ليكمل عندها مدة المحكومية؟

ج: نعم يمكن ذلك- بعد فرض شرعية العقوبة بالسجن- إذا كانت حكومته تنوب عن الحكومة الإسلامية في تنفيذ الحكم الشرعي. أما إذا كانت تستقل بنفسها في تنفيذ العقوبة فلا يخلو الأمر عن إشكال، لأن شرعية إقامة الحكم موقوفة علي شرعية النظام المنفذ له.

5.. إذا كانت الدولة التي عقدت معها الاتفاقية إسلامية هل يتغير الحكم؟

ج: إن كان المراد بالدولة الإسلامية الدولة ذات النظام الإسلامي، بحيث يكون نظام كلتا الدولتين إسلاميا، فالمفروض فيهما معا إجراء حكم اللّه تعالي، و لا فرق بينهما إلا في شخص المنفذ، و لا إشكال حينئذ. لكنه موقوف علي شرعية التمييز بين الدولتين، و قد سبق المنع من ذلك.

و إن كان المراد بها الدولة التي هي رسميا إسلامية، من دون أن يكون نظامها إسلاميا، فيجري فيها ما تقدم في وجه المنع.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 201

6.. هل يكون لرضا المحكوم و عدم رضاه دخل في الأمر؟

ج: لا أثر لرضاه، إلا إذا كان مقتضي الاتفاقية التعدي عليه بما لا يوجب تلف النفس، فإنه يجوز تنفيذها بما يحقق التعدي المذكور برضاه، لأنه مسلط علي نفسه، لكن بعد تنفيذ العقوبة الإسلامية.

ثم إن هذا الكلام كله يبتني علي فرض كون الحكم إسلاميا، و تنفيذه شرعيا، بغضّ النظر عن تحقق الفرض المذكور أو عدم تحققه.

س 62 بالنسبة إلي جواز الدفاع عن العرض و المال، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. في الحالات التي يتعرض المجني عليه للهتك، فما هو الحكم؟

ج: إن علم بعدم لزوم ضرر مهم عليه بالدفاع وجب عليه الدفاع.

لوجوب حفظ العرض، المستفاد من ما دل علي حرمة المؤمن و حرمة عرضه. بل قد يستفاد مما تضمن النهي عن تعريض المؤمن نفسه للذل، و لو بالأولوية، ففي موثق أبي بصير أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إن اللّه تبارك و تعالي فوّض للمؤمن كل شي ء إلا إذلال نفسه» «1»، و نحوه غيره.

و إن احتمل ترتب ضرر عليه مهم- كالقتل و الجرح المعتدّ به و المال الكثير- لم يجب عليه ذلك. لقاعدة نفي الضرر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 12 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبها حديث: 3.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 202

هذا و قد ورد في جملة من النصوص الأمر بالدفاع عن النفس و المال و الأهل. ففي موثق غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «قال: إذا دخل عليك اللصّ يريد أهلك و مالك، فإن استطعت أن تبدره و تضربه فابدره و اضربه. و قال: اللص محارب للّه و لرسوله فاقتله، فما مسّك منه فهو عليّ» «1».

و في خبر الحلبي عنه عليه السّلام: «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا دخل عليك اللص المحارب فاقتله، فما أصابك فدمه في عنقي» «2»، و نحوهما غيرهما من النصوص الكثيرة.

إلا أن دلالتها

علي وجوب الدفاع لا تخلو من إشكال، لورودها في مورد توهم الحظر، بلحاظ تعرض النفس أو المهاجم المسلم للخطر، كما يشهد به ذيل الأحاديث المذكورة.

نعم، لا مجال لذلك في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه): إن اللّه ليمقت الرجل يدخل عليه اللصّ في بيته فلا يحارب» «3»، و نحوه خبر العيون عن الرضا عليه السّلام عن النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم «4».

إلا أنه لا بد من الخروج عنه بصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 7 من أبواب حد المحارب حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد العدو حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد العدو حديث: 2. و قد أثبتناه عن الكافي ج: 5 ص: 51.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد العدو حديث: 15.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 203

«قال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: من قتل دون ماله فهو شهيد. و قال: لو كنت أنا لتركت المال و لم أقاتل» «1».

و صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقاتل دون ماله. فقال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد، فقلت: أ يقاتل أفضل أو لا يقاتل؟ قال: إن لم يقاتل فلا بأس. أما أنا فلو كنت لم أقاتل، و تركته» «2». و قريب منه معتبر أبي بصير «3».

حيث يتعين لأجلها رفع اليد عن ظهور الأولين في وجوب الدفاع.

و يتعين الجمع بين الطائفتين بالحمل

علي كراهة ترك القتال. أو علي أن رجحان القتال مقتضي العناوين الأولية، غير أن قلة المؤمنين تقتضي مرجوحيته حفاظا عليهم، خصوصا في دولة الجور عند ظهور الفساد و كثرة الابتلاء باللصوص، حيث يلزم من التزام المؤمنين بالقتال كثرة القتل فيهم.

و من ثم لا مخرج عن ما ذكرناه من القاعدة.

ثم إنه قد يظهر من بعض كلماتهم وجوب التدرج في مدافعة اللصّ و نحوه، فلا يجوز اختيار الأشدّ مع اندفاع شرّه بالأخف. و كأنه للجمع بين حرمة دم الداخل و دفع شرّه، و الاقتصار في رفع اليد عن حرمته علي مقدار الحاجة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 4 من أبواب الدفاع حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد العدو حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 4 من أبواب الدفاع حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 204

لكنه لا يناسب إطلاق النصوص المذكورة، حيث تضمن بعضها مبادرته بالضرب و القتل، كما تقدم. و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: عورة المؤمن علي المؤمن حرام. و قال: من اطلع علي مؤمن في منزله فعيناه مباحة للمؤمن في تلك الحال. و من دمر علي مؤمن بغير إذنه فدمه مباح للمؤمن في تلك الحالة … » «1».

و دمر من الدمور، و المتيقن منه هجوم الإنسان علي غيره في بيته يريد به الشرّ، و نحوه غيره. حيث يظهر من جميع ذلك سقوط حرمته رأسا و هدر دمه بعدوانه، و لا ملزم مع ذلك بالتدرج.

هذا و لو تعطل المهاجم- بضرب المدافع، أو بترديه في بئر، أو بأخذ سلاحه، أو نحو ذلك- فلا يبعد حرمة التعدي عليه بعد ذلك، فضلا عن الإجهاز عليه. لانصراف

النصوص المتقدمة إلي صورة مهاجمته و محاولته العدوان. و أما البقاء في الدار فهو و إن كان عدوانا، إلا أنه يستند لإقدامه علي الدخول، لا لبقائه في الدار لفرض عجزه بتعطيله.

نعم، لو كان يستطيع الخروج مع تعطيله عن العدوان، فأصرّ علي البقاء، فالظاهر جواز دفعه و إن أدي إلي قتله، لإطلاق مثل صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من بدأ فاعتدي فاعتدي عليه فلا قود له» «2».

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كان القتل من أجل منع الاعتداء في محاولة دفعه و اخراجه عن الدار، لا بنحو يقتضي هدر دمه بحيث يجوز قتله

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 25 من أبواب القصاص في النفس حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 22 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 205

مع إمكان إخراجه من دون ذلك. لعدم وضوح شمول الإطلاق المذكور له.

و لم أعثر عاجلا علي ما ينهض بالإطلاق إلا خبر الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السّلام: «في رجل دخل علي دار آخر للتلصص أو الفجور فقتله صاحب الدار أ يقتل به أم لا؟ فقال: اعلم أن من دخل دار غيره فقد أهدر دمه، و لا يجب عليه شي ء» «1». فإن مقتضي إطلاق الجواب فيه هدر دم الداخل ما دام في الدار. لكن ضعف سنده و عدم ظهور عملهم به مانع من التعويل عليه.

ب.. إذا كان المجني عليه يحتمل التعرض للقتل أو الضرب أو الجرح الشديد أو المتوسط، فما هو الحكم؟

ج: يجوز الدفع، و لا يجب. لما سبق.

ج.. إذا كان المال الذي يتعرض للهجوم كثيرا أو متوسطا أو قليلا، فما هو الحكم؟

ج: يجوز الدفع لإطلاق النصوص، و لا يجب. لما سبق.

د.. إذا كان الدفاع يؤدي إلي قتل المهاجم، فما هو الحكم؟

ج: يجوز الدفاع، و دم المهاجم هدر لا قصاص و لا دية فيه، كما يظهر من ما سبق. نعم لا يجب الدفاع. لما سبق.

______________________________

(1) الكافي ج: 7 ص: 294 باب من لا دية له حديث: 16.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 206

ه. في الموارد التي لا يجوز التعرض للقاتل، فما هو الحكم لو قتل المدافع، أو قتل المهاجم؟

ج: لا وجود للموارد المذكورة. و في جميع الموارد يجوز الدفاع، حتي لو كان المدافع عنه مالا قليلا، و خسائر الدفاع جسيمة. عملا بإطلاق الأدلة.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مسائل معاصرة في فقه القضاء، در يك جلد، دار الهلال، نجف اشرف - عراق، دوم، 1427 ه ق مسائل معاصرة في فقه القضاء؛ ص: 206

و دم المهاجم هدر، و دم المدافع محترم في الجميع، عملا بالإطلاق أيضا. و لا يبتني الحكم علي التزاحم، لتلحظ الموازنة بين الفوائد و الخسائر، بل علي مراعاة الحرمة، و الحفاظ علي الكرامة، و هدر حرمة المهاجم المعتدي.

س 63

أ.. هل يجوز البيع أو التبرع بأعضاء البدن من أجل نقلها للآخرين، كبيع الكلية؟

ج: أنعم اللّه تعالي بهذه الأعضاء علي الإنسان، لينتفع بها، فيشكل التخلي عنها و الحرمان من فائدتها تبرعا، أو من أجل النفع المادي. و الأحوط وجوبا العدم. بل لا إشكال في الحرمة إذا تعرض صاحبها للخطر علي حياته بقلعها.

نعم، إذا توقف علي ذلك إنقاذ حياة مؤمن فلا بأس بقلعها و دفعها له- تبرعا أو بثمن- مع عدم تعرض صاحبها للخطر. لمزاحمة الداعي المذكور للحرمة المحتملة.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 207

ب.. هل يجوز البيع و التبرع بعد وفاة الشخص المتبرع أو البائع، كبيع العين و القلب؟

ج: لا يجوز البيع المذكور إذا كان المأخوذ منه مسلما. لحرمة بدنه بنحو تمنع من التعدي عليه بالتقطيع. بل يجب دفنه بحاله، كما تضمنته النصوص، حتي ورد النهي عن ترجيل شعره و قص أظافره، و أنه لو فعل ذلك وجب دفن ما ينفصل عنه معه.

ففي موثق عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الميت يكون عليه الشعر، فيحلق عنه، أو يقلم [ظفره]. قال: لا يمس منه شي ء، اغسله و ادفنه» «1»، و في مرسل ابن أبي عمير عنه عليه السّلام: «قال: لا يمس عن الميت شعر و لا ظفر، و إن سقط منه شي ء فاجعله في كفنه» 2، و نحوهما غيرهما.

نعم، إذا توقف علي ذلك إنقاذ حياة مؤمن جاز، لمزاحمة الجهة المذكورة للتكليف المذكور.

ج.. هل يجوز القيام بذلك في الشخص المحكوم بالموت، علي نحو ما ذكر في الفقرة (أ)، (ب)؟

ج: أما الأخذ في حياته فلا بأس به حتي في ما لا يتوقف عليه حياة مؤمن، لارتفاع الجهة المتقدمة للحرمة المحتملة بعد فرض تعرضه للموت،

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 3، 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 208

و استغنائه عن العضو المذكور.

نعم، لا بد من إذنه، لأن الحكم شرعا عليه بالموت- حدّا أو قصاصا- لا يسقط حرمته في ذلك. و أما الأخذ بعد موته فلا يجوز، لما سبق. و مجرد قتله بحق لا يسقط حرمته في ذلك بعد كونه مسلما.

د.. إذا أوجب البيع و الانتقال تأخيرا في إجراء الحدّ، هل يمكن التفريق بين الحدّ و القصاص؟

ج: نعم يتعين التفريق بينهما، ففي القصاص يكفي رضا وليّ الدم بالتأخير، و في الحدّ لا بدّ من التعجيل لعموم أدلته التي تقدم. التعرض لها في جواب السؤال الواحد و الخمسين، إلا إذا توقف علي نقل العضو- المستلزم للتأخير- إنقاذ حياة مؤمن، فيجوز تأخير الحدّ حينئذ للمزاحمة.

و كذا إذا لم يكن التأخير معتدا به عرفا، لقصر أمده، بحيث لا تمنع منه أدلة التعجيل بالحدّ.

س 64 بعد إجراء عقد النكاح إذا كان الزوج معسرا لا يستطيع دفع المهر، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل تستطيع الزوجة أن لا تمكن من نفسها من أجل ذلك؟

ج: نعم تستطيع ذلك من دون خلاف ظاهر، بل في كشف اللثام و عن غيره دعوي الاتفاق عليه. و لعله اتفاقي بين المسلمين. بل يظهر من

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 209

بعض كلماتهم و تفريعاتهم المفروغية عنه.

و قد يستدل عليه بوجهين:

الأول: ما تضمن عدم جواز الدخول إلا بدفع المهر، كصحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في النصرانيين إذا تزوجا علي الخمر و الخنزير، ثم أسلما قبل الدخول: «قال: ينظر كم قيمة الخنزير و كم قيمة الخمر، و يرسل به إليها، ثم يدخل عليها، و هما علي نكاحهما الأول» «1».

و موثق سماعة: «سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها، ثم جعلته من صداقها في حلّ، أ يجوز أن يدخل بها قبل أن يعطيها شيئا؟ قال: نعم، إذا جعلته في حلّ فقد قبضته منه … » «2»، و غيرهما.

لكن لا دلالة في النصوص المذكورة علي كون أخذ المهر قبل الدخول حقا للزوجة، بحيث لها الامتناع من تمكين الزوج من نفسها قبله، بل علي نهي الزوج عن الدخول بها قبل دفع المهر، بل و لو دفع شي ء منه أو من غيره. كما في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا تزوج الرجل المرأة فلا يحلّ

له فرجها حتي يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه، أو هدية من سويق أو غيره» «3».

و موثقة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: تزوج أبو جعفر عليه السّلام امرأة فزارها، فأراد أن يجامعها فألقي عليها كساه، ثم أتاها. قلت: أ رأيت إذا أوفي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 3 من أبواب المهور حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 4 من أبواب المهور حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 7 من أبواب المهور حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 210

مهرها أله أن يرتجع الكساء؟ قال: لا، إنما استحلّ به فرجها» «1»، و غيرهما.

و لا بد من حملها علي كراهة الدخول بالزوجة من دون دفع شي ء لها، حيث لا ريب في جواز ذلك، كما صرح به في النصوص، كصحيح عبد الحميد بن عواض: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يتزوج المرأة، فلا يكون عنده ما يعطيها، فيدخل بها. قال: لا بأس إنما هو دين عليه لها» «2».

و علي كل حال فالنصوص المذكورة أجنبية عن ما نحن فيه.

الثاني: أن المهر عوض البضع، و مقتضي المعاوضة عدم تسليم المعوض إلا باستلام العوض.

و فيه: أن المهر ليس من سنخ العوض، بل هو يشبه الهدية المشترطة في العقد، و لذا لو تعذر الاستمتاع لم يبطل عقد النكاح، غاية الأمر أن يثبت به الفسخ في بعض الموارد.

فالأولي الاستدلال علي ذلك بأنه مقتضي طبع عقد النكاح، كما يناسبه مرتكزات المتشرعة بل عموم العقلاء، و ظهور المفروغية عنه بين الفقهاء، كما سبق.

و هو المناسب أيضا لما تضمنته جملة من النصوص من أن الدخول يهدم المهر، و أنه لا شي ء لها من مهرها بعد الدخول، كموثق عبيد بن زرارة عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يدخل بالمرأة ثم تدعي عليه مهرها، فقال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 33 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 8 من أبواب المهور حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 211

إذا دخل بها فقد هدم العاجل» «1»، و غيره.

و النصوص المذكورة ظاهرة بدوا في سقوط المهر شرعا و براءة ذمة الزوج منه واقعا إذا لم يكن قد سلمه قبل الدخول، و ذلك مستلزم لكون مقتضي عقد النكاح تسليم المهر قبل الدخول، لأن مقتضي جعل المهر تحصيل المرأة له، فإذا كان الدخول مسقطا له، فلا بد من ابتناء جعله علي أخذه قبل الدخول.

نعم، لم يعرف القول بمقتضي الظهور المذكور إلا عن الحلبي، فيما حكي عنه، و المعروف بينهم خلافه. و هو المتعين بلحاظ النصوص الصريحة في جواز الدخول من دون دفع المهر، و أنه يبقي دينا علي الزوج، و منها صحيح عبد الحميد و موثق أبي بصير المتقدمان.

فلا بد من حمل النصوص الأولي علي أحد أمرين:

الأول: فرض تنازل المرأة عن المهر لو فرض عدم قبضها له، بسبب المفروغية عن أن مقتضي عقد النكاح أخذ المرأة المهر قبل الدخول، فرضاها بالدخول لا بد أن يبتني علي أخذها المهر أو تنازلها عنه كله أو عن ما لم تأخذه منه. فهي واردة لبيان عدم جواز رجوعها عن التنازل المذكور و المطالبة بالمهر بعده.

و ربما يناسب ذلك ما في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام: «في رجل تزوج امرأة، فدخل بها فأولدها، ثم مات عنها، فادعت شيئا من صداقها علي ورثة زوجها، فجاءت تطلبه منهم، و تطلب الميراث. فقال: أما الميراث

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 8 من أبواب

المهور حديث: 2، 4.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 212

فلها أن تطلبه. و أما الصداق فإن الذي أخذت من الزوج قبل أن يدخل عليها فهو الذي حلّ للزوج به فرجها قليلا كان أو كثيرا، إذا هي قبضته منه و قبلته و دخلت عليه، فلا شي ء لها بعد ذلك» «1».

حيث لا يبعد كون المراد بقوله: «إذا هي قبضته منه و قبلته و دخلت عليه» هو قبولها بكونه بدل المهر و دخولها عليه علي أنه هو الأمر الذي يستحل به فرجها. لأن ذلك هو المحتاج للتنبيه، و المناسب لما ينصرف من الحديث من إلزامها بما التزمت به علي نفسها. أما لو كان المراد مجرد قبولها بأخذ ما أعطاها الزوج و إن كان بعض المهر أو هدية خارجية، فهو لا يحتاج إلي التنبيه، حيث لا يحتمل عرفا أخذها له من دون رضا به، كما لا يكون سقوط المهر معه إلزاما لها بما التزمت به علي نفسها، بل تعبدا محضا، و هو خلاف المنصرف من الحديث.

الثاني: أنه لما كان مقتضي عقد النكاح أخذ المهر المعجل قبل الدخول، فيكون الدخول قرينة علي أخذها المهر أو تنازلها عنه، بحيث يكون أمارة علي ذلك شرعا، و تنقلب الدعوي معه، فيحتاج دعواها بقاء المهر في ذمة الزوج إلي الإثبات. و هو الذي صرح به في خبر الحسن بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا دخل الرجل بامرأته ثم ادعت المهر، و قال: قد أعطيتك، فعليها البينة، و عليه اليمين» 2.

و هو الظاهر من صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل و المرأة يهلكان جميعا، فيأتي ورثة المرأة فيدّعون علي ورثة

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة

ج: 15 باب: 8 من أبواب المهور حديث: 13، 7.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 213

الرجل الصداق. فقال: و قد هلك و قسم الميراث؟ فقلت: نعم، فقال: ليس لهم شي ء. قلت: فإن كانت المرأة حية، فجاءت بعد موت زوجها تدعي صداقها؟ قال: لا شي ء لها و قد أقامت معه مقرة حتي هلك زوجها …

قلت: فإن طلقها فجاءت تطلب صداقها. قال: و قد أقامت معه لا تطلبه حتي طلقها، لا شي ء لها. قلت: فمتي حدّ ذلك الذي إذا طلبته لم يكن لها؟

قال: إذا أهديت إليه و دخلت بيته و طلبت بعد ذلك فلا شي ء لها. إنه كثير لها أن يستحلف باللّه ما لها من قبله من صداقها قليل و لا كثير» «1».

فإن قوله عليه السّلام: «إنه كثير لها أن يستحلف … » ظاهر في مشروعية الحلف المذكور، و إن كان كثيرا بلحاظ الأمارة السابقة، و هي إقامتها معه مقرّة من دون مطالبة، لا أن الحلف علي ذلك غير مشروع، لسقوط المهر واقعا بالدخول تعبدا، فإنه لا يناسب ذكر الأمارة السابقة و التأكيد عليها في فروض السؤال المختلفة، إذ لا موضوع لها معه.

و من ثم لا يبعد البناء علي ذلك، كما صرح به في النهاية و مبحث النفقات من الخلاف، مدعيا عليه إجماع الفرقة و أخبارهم، و هو ظاهر التهذيبين أو صريحهما، و ظاهر الكليني في الكافي و حكاه في المسالك عن ابن الجنيد. خلافا للمبسوط، فحكم بأن القول قولها- و إن أشار للرواية المتقدمة بخلاف ذلك- و به صرح في مبحث المهور من الخلاف، مدعيا أن عليه إجماع الفرقة و أخبارهم، كما صرح بذلك المحقق في الشرائع و جماعة من من تأخر عنه، بل لعله المشهور.

عملا بعموم ما تضمن أن علي المدعي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 8 من أبواب المهور حديث: 8.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 214

البينة، الذي يجب الخروج عنه بما سبق.

بقي في المقام أمور..

الأول: أن الظاهر اختصاص ما تقدم بالمهر المعجل، أما المؤجل فهو كسائر الديون لا يبتني جعله عرفا علي تقديمه علي الدخول، بل علي مجرد التوثق للنكاح بالبقاء، أو إعزاز المرأة، فليس لها الامتناع عن التمكين من أجل قبضه حتي لو فرض تأخر الزفاف إلي حلول أجله. و النصوص بين ما يختص بالعاجل- كما تقدم بعضها- و ما ينصرف إليه بسبب تعارف ارتباط التمكين بالعاجل، بحيث يكون رضاها بالتمكين قرينة علي قبضه أو تنازلها عنه.

و منه يظهر أن انقلاب الدعوي يختص بالعاجل أيضا، لأنه هو المرتبط بالدخول.

الثاني: لو رضيت بالدخول قبل قبض المهر، و مكّنت من نفسها فدخل بها، فالظاهر أنه ليس لها الامتناع عن التمكين بعد ذلك من أجل تحصيله، بل يبقي كسائر الديون، لتنازلها عن مقتضي عقد النكاح بتمكينها من دون قبض المهر.

و لا تنهض النصوص المتقدمة و لا المرتكزات بإثبات جواز الامتناع لها. خلافا لما عن جماعة من جواز الامتناع لها، لأنه مقتضي المعاوضة بين البضع و المهر. و يظهر ضعفه مما سبق.

كما أن الظاهر أن الدعوي لا تنقلب أيضا، بل لو ادعي الزوج

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 215

التسليم بعد الدخول احتاج للإثبات و البينة، عملا بالعمومات بعد قصور النصوص المتقدمة عن ذلك.

الثالث: الظاهر أن المعيار في انقلاب الدعوي ليس علي الدخول، بل علي الزفاف و دخول المرأة لبيت الزوج و إهدائها له. عملا بصحيح عبد الرحمن بن الحجاج. و عليه يحمل خبر الحسن بن زياد، بلحاظ غلبة مقارنة الزفاف

للدخول عرفا، لأن الأمارة علي تسليم المهر أو إسقاطه هو الزفاف. و لا سيما مع ضعف خبر الحسن بن زياد في نفسه.

ب.. إذا قلنا بجواز عدم التمكين فهل ينحصر امتناعها بالدخول أو يشمل كافة الاستمتاعات؟

ج: الظاهر شموله لكافة الاستمتاعات، لأنها تابعة للدخول، و من لواحق الزفاف عرفا.

ج.. هل يصدق النشوز و الحالة هذه؟

ج: لا يصدق النشوز بعد فرض جواز الامتناع.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 216

س 65 بملاحظة أن الأبحاث العلمية أثبتت إمكان انتقال نطفة الميت بعد وفاته بفترة محدودة إلي المرأة، و قد يتحقق الحمل بذلك، فيرجي الإجابة عن ما يأتي..

أ.. هل يمكن القيام بذلك بين الزوج و الزوجة؟

ج: لا يحل ذلك. لانقطاع العصمة بينهما بالموت- و إن جاز النظر من أحدهما للآخر- و يحرم وضع نطفة الإنسان في رحم غير الزوجة و المملوكة.

ففي معتبر علي بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه» «1»، و نحوه غيره.

و الوعيد فيه و إن كان للرجل صاحب النطفة، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بإلغاء خصوصيته و حرمة ذلك من كل أحد.

و دعوي: ورود ذلك للكناية عن حرمة الزني من دون أن يحرم بنفسه.

ممنوعة جدا، بل مقتضاه تأكد حرمة الزني بالإنزال، فالزني مع الإنزال أشدّ حرمة من الزني بدونه. و من ثم ذكر في الوسائل هذا الحديث و نحوه في باب وجوب العزل علي الزاني.

علي أن الكناية عن الزني بذلك تكشف عرفا عن مبغوضية وضع

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 4 من أبواب النكاح المحرم حديث: 1. و قد أثبتناه عن الكافي.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 217

الماء في رحم الأجنبية، و أن له دخلا في حرمة الزني، و مبغوضيته شرعا.

ب.. هل تترتب أحكام النسب من حيثية الطهارة و الإرث و غيرهما؟

ج: الظاهر ترتب أحكام النسب تبعا للإلحاق العرفي. كما هو مقتضي الإطلاقات المقامية لأحكام العناوين النسبية، من دون أن ينافيها تحريم إحداث سبب العلاقة، لأن تحريم السبب لا ينافي ترتب المسبب عليه، و لحوق أحكامه له. و يتعين الاقتصار في الخروج عنها علي مورد قيام الدليل المخرج، كما ورد عدم الميراث مع الزني.

نعم، لا مجال للميراث من الأب لانتقال المال للمنتسبين للميت- بما في ذلك الحمل- حين الموت. أما من حمل به بعد ذلك فهو خارج عن أدلة الميراث.

نظير ما لو ورث الميت إخوته دون أبويه، لمانع- كالقتل- فإن الذي يرثه

من إخوته هم الموجودون حين موته دون من يتجدد بعد ذلك. و لا سيما مع عدم معهودية ذلك في عصر التشريع، ليمكن فهم شمول الأدلة له من إطلاقها، أو تبعا.

بل يشكل ميراث الحمل من المرأة مع تعمّدها وضع ماء الرجل بعد وفاته في رحمها و هي عالمة بالتحريم. لأن وضع الماء في الرحم في المقام لما لم يكن مشروعا فقد يستفاد عدم الميراث به من ما تضمن عدم الميراث من الزني، لأنهما من سنخ واحد. و إن لم يخل عن إشكال.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 218

و لذا يلزم الاحتياط في الميراث حتي مع حياة صاحب الماء مع تعمد وضع الماء في رحم غير الزوجة، كما ذكرنا ذلك في المسألة الثامنة من الفصل التاسع في أحكام الأولاد من رسالتنا (منهاج الصالحين).

ج.. هل يمكن القيام بذلك بين الرجل و امرأة أجنبية؟

ج: لا يحل ذلك، لما سبق. بل هو أولي بالتحريم من وضع النطفة في رحم الزوجة.

س 66 بالنسبة إلي عمل المرأة خارج بيت الزوجية، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. إذا أجاز الرجل لزوجته أن تقوم بعمل معين

، و بعد أن قطعت الزوجة شوطا من العمل اعتمادا علي الإجازة المذكورة، هل يمكن للزوج أن يمنعها من الاستمرار في العمل، أو أن الإجازة الأولي تعني الالتزام بكل لوازمها؟

ج: إذا تمحضت الإجازة في الإذن بالعمل كان له الرجوع متي شاء، عملا بإطلاق ما تضمن عدم جواز خروج الزوجة من بيتها بغير إذن الزوج، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم مع المرأة التي سألته عن حقّ الزوج علي المرأة و فيه: «و لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، و إن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء، و ملائكة الأرض،

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 219

و ملائكة الغضب، و ملائكة الرحمة، حتي ترجع إلي بيتها … » «1».

و صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن المرأة، أ لها أن تخرج بغير إذن زوجها؟ قال: لا» 2.

و موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم: أيما امرأة خرجت من بيتها بغير إذن زوجها فلا نفقة لها حتي ترجع» 3، و غيرها.

و إن ابتنت الإجازة علي الإذن في إيقاع العقود الملزمة بالاستمرار مدة معينة- كشهر أو سنة- فإذا وقعت مثل هذه العقود كانت ملزمة في حقها و حقه، فلا يجوز لهما الرجوع عنها في أثناء المدة، عملا بعموم نفوذ العقود، بعد فرض سلطنتها علي إيقاع العقد بسبب إجازة الزوج لها في ذلك.

ب.. هل يمكن التفصيل بين العمل المؤقت و العمل الدائم في النتيجة المترتبة علي الفقرة السابقة؟

ج: المعيار في التفصيل ما سبق، فإذا كان مبني العمل الدائم علي الالتزام باستمراره بمقتضي عقد مأذون فيه نفذ، و إلا لم ينفذ. و لا يكون ملزما للزوج، بل

يجوز له الرجوع، فيحرم عليها الخروج. لعموم أدلة عدم جواز خروج الزوجة من بيتها بغير إذن الزوج، كما سبق.

ج.. و هل يفرق في ذلك بين العمل التابع لأشخاص معينين و التابع لجهة عامة، خصوصا الدولة؟

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 14 باب: 79 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1، 5.

(2) 3 وسائل الشيعة ج: 15 باب: 7 من أبواب النفقات حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 220

ج: لا فرق بين القسمين، لعدم الفرق بينهما في شمول الأدلة المتقدمة في فرض كون الدولة طرفا شرعيا في العقد لو فرض حصوله.

د.. و هل يمكن التفريق بين العمل المنافي لحق الزوج و العمل غير المنافي له؟

ج: لا فرق بينهما بعد فرض سلطنته علي منعها في القسمين، و علي الترخيص لها فيهما معا.

ه.. و هل يمكن التفريق بين العمل الذي لا يؤدي تركه في الأثناء إلي ضرر علي الآخرين، و العمل الذي يؤدي تركه إلي ذلك

، كمنع المرأة من الاستمرار في التدريس في أثناء السنة الدراسية، و الذي يؤدي إلي الإضرار بالمؤسسة التي تعمل فيها، و بالطلاب الذين يدرسون فيها؟

ج: لا مجال للفرق بالوجه المذكور. إذ مع إجازة الزوج في إيقاع العقد المقتضي للاستمرار فهو ملزم بالعقد المذكور حتي في ما لا يلزم الضرر من التخلي عنه.

و مع عدم إجازته في العقد المذكور لا وجه لإلزامه بالاستمرار، من

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 221

أجل عدم الإضرار بالآخرين، مع عدم تسببه بالإضرار بهم، بل سبب الإضرار هو إقدامهم علي التعامل مع المرأة من دون ملزم لها بالاستمرار.

س 67 بالنسبة للأنظمة المتبعة في البنوك و مدي مطابقتها للأحكام الشرعية، يرجي الإجابة عن ما يلي:

أ.. هل تسجل قيمة النقد لصالح المتعامل مع البنك أو يلزم البنك بعين النقد الذي أخذه من المتعامل معه؟

ج: السؤال المذكور قد يحتمل وجهين:

الأول: أن البنك هل يلزم بعين النقد الذي أخذه من العميل، أو بمثله. فإن كان المراد ذلك فلا ريب أن البنك لا يلزم بالعين، بل بالمثل، لابتناء التعامل الشائع مع البنك علي القرض، الذي يبتني علي دفع العين، علي أن تكون مضمونة في الذمة بمثلها.

و لا يجب الحفاظ علي العين إلا في الأمانات و الودايع التي تكون وظيفة البنك حفظها بعينها في صندوق يخصها من دون أن تدخل في حسابه و لا تكون مضمونة عليه، إلا مع التفريط فيها، كالمجوهرات و المستندات و نحوها.

و وضوح ذلك قد يكون قرينة علي عدم إرادته من السؤال.

الثاني: أن البنك هل يلزم بمقدار النقد المدفوع و إن اختلفت قيمته و قوته الشرائية تبعا لذلك، أو يلزم بقيمته و ما يطابق قوته الشرائية. فإذا

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 222

أقرض العميل البنك مليون دينار عراقي، أو تومان ايراني، أو روبية باكستانية، أو غيرها، و بعد سنة هبطت قوتها الشرائية إلي النصف نتيجة التضخم، فهل يلزم البنك بالمليون نفسه لا أكثر و لا أقل، أو

يلزم بقدر قوة المليون الشرائية حين القرض، التي هي بقدر مليونين حين الوفاء. و لا يبعد كون ذلك هو المراد في السؤال، لشيوع الابتلاء به و كثرة الحديث عنه هذه الأيام.

و الظاهر في الجواب علي ذلك: أن البنك ملزم بقدر النقد المدفوع من دون نظر لقوته الشرائية، و كذا الحال في كل مدين، لابتناء الدين في النقد و في كل شي ء علي دفع العين و الضمان بمثلها، من دون نظر للقيمة و المالية.

فإن القيمة و المالية تختلف في الأشياء باختلاف الزمان، و المكان، و المؤثرات الأخري، فغالب الأشياء المتمولة أو كلها تختلف قيمتها باختلاف فصول السنة، بل باختلاف الأيام و الساعات، و باختلاف الأماكن المطلوبة فيها، فهي في مناشئ حصولها- بزراعة أو صناعة- أقل قيمة منها في أماكن أخري لا تتحصل فيها، بل تنتقل إليها من غيرها. بل قد تختلف باختلاف الأسواق و المحلات.

كما قد تتأثر بأمور أخري، كورود الزائرين و السياح الذين يطلبونها، و تعرضها للضرر أو التلف يخزنها لتقلبات الجوّ من حرّ أو مطر أو غيرهما، بل حتي مثل انقطاع التيار الكهربائي أو ارتفاع سعره … إلي غير ذلك.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 223

مع أنه لا ريب في إهمال العرف ذلك كله في باب ضمان المثليات، الذي عليه يبتني الدين، بنحو يرجع إلي ثبوت سيرة ارتكازية علي ذلك متصلة بعصور المعصومين عليهم السّلام لا إشكال في إمضائها من قبلهم. كما أنه يصلح لتفسير مفاد الدين الذي هو من العقود، التي يكون مقتضي الأدلة نفوذها علي النحو الذي قصد منها حين إيقاعها و الالتزام بها.

و لا فرق في ذلك بين النقد و العروض، فإن النقد تختلف قيمته أيضا باختلاف الزمان و المكان، و

تبعا للمؤثرات الخارجية. كما يتضح بأدني ملاحظة للنصوص و التاريخ.

ففي موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «في رجل يشتري السلعة بدينار غير درهم إلي أجل. قال: فاسد. فلعل الدينار يصير بدرهم» «1»، فإن الفرض المذكور في الحديث و إن كان بعيد الوقوع جدا، إلا أنه شاهد بتوقع اختلاف نسبة قيمة الدينار للدرهم.

و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة إلي أجل، فجاء الأجل و ليس عنده الذي حلّ عليه دراهم.

فقال له: خذ مني دنانير بصرف اليوم. قال: لا بأس به» «2».

و صحيح إسحاق بن عمار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: تكون للرجل عندي من الدراهم الوضح، فيلقاني فيقول: كيف سعر الوضح اليوم؟

فأقول له: كذا و كذا. فيقول: أ ليس لي عندك كذا ألف درهم وضحا؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 23 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب بيع الصرف حديث: 2.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 224

فأقول: بلي. فيقول لي: حوّلها دنانير بهذا السعر و أثبتها لي عندك. فما تري في هذا. فقال لي: إذا كنت قد استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك … » «1»، و غيرهما مما هو صريح أو كالصريح في اختلاف سعر الدينار و الدرهم باختلاف الأيام.

و في موثق يعقوب عن أبي الحسن الأول عليه السّلام: «سمعته يقول: إني كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما، و في قميص من قمصه، و عمامة كانت لعلي بن الحسين، و في برد اشتريته بأربعين دينارا، لو كان اليوم لساوي أربعمائة دينار» «2».

فإن من القريب أن يكون ارتفاع قيمة البرد

لكثرة النقد و ضعف قوته الشرائية بسبب ذلك … إلي غير ذلك مما يستفاد منه اختلاف قيمة النقد، بل هو أمر أوضح من أن يحتاج للاستدلال عليه بالنصوص.

مع عدم الإشكال بملاحظة السيرة الارتكازية المتصلة بعصور المعصومين عليهم السّلام في عدم النظر لقوته الشرائية في ضمانه بالدين أو نحوه، و أن المعيار عندهم في ذلك علي مثل المضمون مهما اختلفت قيمته. كما أن ذلك هو المقصود للمتعاملين بنحو يصلح لتفسير مفاد عقد الدين و المقصود منه.

علي أن القيمة و القوة الشرائية تختلف باختلاف الأشياء التي يقاس عليها الشي ء المضمون، فربما تكون نسبة الأمر المضمون- من نقد أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب بيع الصرف حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 15.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 225

عروض- بالإضافة إلي بعض الأشياء مستقرة غير متغيرة، و بالإضافة إلي غيره متغيرة، نزولا أو صعودا، بمراتب مختلفة لا ضابط و لا حصر لها.

فمثلا قد تستقر في فترة من الزمن نسبة الحنطة للشعير، و تختلف نسبة الحنطة بالإضافة إلي بقية الغذائيات، و إلي الثياب و النقد و المنافع و غيرها نزولا أو صعودا.

و ليس هناك أمر ثابت القيمة، ليتوهم كونه بنظر الشارع الأقدس هو المقياس العام الذي تقاس قيم الأشياء المضمونة عليه، بدءا بالذهب و الفضة و العملات الصعبة و الأمور الحياتية الضرورية- كالطعام و الشراب و السكن- ثم التدرج إلي الكماليات و الترفيهيات و توافه الأمور، حيث يتعذر مع ذلك انضباط قيمة الأمر المضمون.

و قد شهد الذهب و العملات الصعبة تحولات خطيرة في القيمة، غير التراوح المستمر صعودا أو نزولا بالوجه غير الملفت للنظر.

و مجرد كون بعض الأمور أبعد عن

التحول و أقرب للتوثق لا يجعلها معيارا بعد كون الغرض حفظ القيمة الواقعية.

و التسامح في القليل يفتح باب التسامح في الكثير. و لا سيما مع كون المرجع في التحديد هو الشارع الذي لا بدّ في إحراز تحديده للقيمة من وجود مقياس منضبط في عهده يمكن دعوي إرجاعه إليه، و قد سبق أنه مفقود، و لا مجال لإحراز تحديده للقيمة بدون ذلك.

و الإنصاف أن الأمر بالنظر للحسابات العلمية أوضح من أن يحتاج

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 226

لتكلف الاستدلال و التوضيح، و إنما أثير الكلام في الموضوع نتيجة المشاكل الحاصلة بسبب تعارف التعامل بالنقود الورقية، خصوصا بعد عدم الغطاء لها في كثير من البلدان.

لكنّ المشاكل المذكورة لا تصلح لتبديل معني الضمان و حقيقة الدين المقصودة عند إيقاع عقده و ضوابطهما و أحكامهما الشرعية.

ب.. هل يجري ما سبق علي جميع أقسام التعامل التي يجريها البنك علي عملائه

، كالحساب الجاري، و صندوق التوفير، و المعاملات التي يجريها البنك نيابة عن المشتركين فيه؟

ج: يجري ما سبق علي جميع أنواع التعامل المبنية علي القرض و الدين، كالرصيد و الحساب الجاري و صندوق التوفير. لاشتراكها في الوجه المتقدم.

أما المعاملات التي يجريها البنك نيابة عن المشتركين، و التي يكون البنك مضاربا فيها معهم، فإن ابتنت علي عزل مالهم الذي يدفعونه من أجل التعامل به- بحيث يبقي أمانة مودعة عند البنك بعينه، لا يتصرف به إلي أن يتيسر إجراء المعاملات نيابة عنهم فيه- فلا موضوع للحديث السابق فيه، لعدم كونه قرضا حينئذ، بل وديعة غير مضمونة إلا بالتفريط، نظير ما ذكرناه في أول الجواب عن الفقرة (أ) حول الأمانات و الودائع المحفوظة في صندوق يخصها.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 227

و إن ابتنت علي اقتراض البنك للمال إلي حين تيسر إجراء المعاملات عليه- كما هو

الظاهر- فيجري فيه ما سبق في مدّة الاقتراض قبل تيسر إجراء المعاملات علي المال. أما بعد إجراء المعاملات علي المال فيجري عليه حكم الأمانات و الودائع السابق.

ج.. هل يجوز للبنك أن يدفع للعميل فوائد و أرباح علي ما أودعه في البنك

من دون أن تتحقق فوائد و أرباح للرصيد الذي يملكه العميل فعلا، و بعد أن تتحقق الفوائد له يقتطع منها بقدر ما دفع للعميل سابقا؟

ج: لا معني لدفع الفوائد و الأرباح قبل تحققها.

نعم، يمكن إقراض العميل شيئا من المال بأمل حصول الفوائد و الأرباح لرصيده، ثم اقتطاع ما يدفع له منها عند حصولها، فيكون العميل مدينا للبنك بما دفعه له، بحيث يحقّ للبنك الرجوع عليه به لو لم يحصل له فوائد و أرباح بقدره.

د.. ما هو حكم الجوائز و الهدايا التي يدفعها البنك للعميل شرعا؟

ج: لا بأس بها إذا لم تكن مشروطة عند إقراض العميل ماله للبنك.

و إلا كانت من الربا المحرم.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 228

س 68 هل يمكن التخلص من ربا القرض من خلال هذه المعاملة:

أن يشتري اثنان دارا أو عمارة، ثم يؤجر أحد الشريكين سهمه للآخر بشرط التمليك علي نحو يكون الملك ملكا للمستأجر بعد إعطاء الأقساط كلها؟ (و لا بد من ملاحظة أن الأقساط ستكون أكثر من قيمة السهم).

ج: قد تشكل المعاملة المذكورة بأن ملكية السهم إن كانت فعلية لم يبق موضوع للإجارة، لأن المنفعة تملك تبعا لملكية العين. و إن كانت معلقة علي دفع الأقساط، أشكلت بعدم صحة التمليك المعلق.

فالأولي الاستعاضة عنها بأن يؤجره السهم في المدة المذكورة، مع كون دفع الأجرة بنحو التقسيط، و بعد تحقق الإجارة و ملكية المستأجر للمنفعة يبيعه السهم مسلوب المنفعة بأحد الأقساط مثلا. و الأسهل من ذلك بيع السهم بثمن يقسط علي مدّة الإجارة المطلوبة.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 229

س 69 هل يمكن أن يحصل الاشتراك في الملكية بلحاظ الزمن

، و ذلك بأن يشتري أربعة أشخاص شيئا ما بحسب فصول السنة الأربعة مثلا، بحيث يتصرف أحدهم به تصرف المالك خلال فصل معين بإجارة و نحوها، ثم يتركه للآخر، و هكذا؟

ج: لا يخلو السؤال عن إجمال. فإن أريد بذلك انتقال ملكية المال في كل زمن لأحد الشركاء، بحيث يملكه كله، و يخرج عن ملكية الآخرين في الفصل المخصص له، و يترتب آثار ملكيته له دونهم، فلو مات في ذلك الفصل- مثلا- صار لورثته و حرم منه الآخرون. فهذا لا تقتضيه الشركة، و لا يناسب الاشتراك في ثمنه المفروض في السؤال، لأن الاشتراك في الثمن يقتضي الاشتراك في المثمن، بحيث يكون لكل من الشركاء سهم منه يناسب ما دفعه من الثمن.

و إن أريد بذلك اختصاص كل منهم بالتصرف فيه و بمنفعته في زمن خاص علي نحو المهاياة، مع بقاء شركتهم في نفس العين، فلا بأس بما تصالحوا عليه من ذلك. لعموم

أدلة الصلح.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 230

س 70 إذا اختلف الزوجان أو ورثتهما في متاع البيت و أثاثه، فكيف يكون الحكم و القضاء بينهما؟

ج: ما كان من متاع الرجال فهو للزوج، و ما كان من متاع النساء فهو للزوجة، و ما كان مشتركا بين الرجال و النساء فهو لهما معا يقسم بينهما.

و مقدمة لبيان الوجه في ذلك نقول:

الظاهر أن مقتضي القاعدة في المقام و نظائره من موارد اختلاف أهل البيت الواحد في المتاع الذي فيه أن يكون القول قول صاحب البيت الذي هو المسيطر عليه، بحيث يكون هو رئيس العائلة و الباقون تابعين له، و تحت ظله، و ساكنين عنده، سواء كان هو الزوج- كما هو الغالب- أم الزوجة أم الولد الكبير أم غيرهم. لأنه صاحب اليد عرفا علي البيت و ما فيه.

و مجرد سكناهم في البيت معه، المستلزم لسيطرتهم علي المتاع و قدرتهم علي التصرف فيه، لا يقتضي مشاركتهم له في اليد الحجة، بحيث يكونون في عرضه، كالشريكين في المحل الواحد، و كما لو اشترك شخصان في المسؤولية و الإعالة لأهل بيت واحد.

و لا فرق في ما ذكرنا بين كون رئيس العائلة هو المالك للبيت شرعا، و كونه الساكن فيه- بأجرة أو بذلا- مع كون البيت مملوكا لبعض أفراد العائلة أو لأجنبي. لأن المعيار في تحقق اليد علي ما في البيت ليس هو ملكيته، بل الاستيلاء عليه، و علي ما فيه و السيطرة عليهما خارجا، و المعيار

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 231

فيه ما ذكرنا، فمن تحقق فيه ذلك حكم بملكية ما في البيت له ظاهرا ما لم يتحقق المخرج عن ذلك.

نعم إذا كان بعض أفراد العائلة قد اختص ببعض الأشياء لنفسه، بحيث يكون هو المسيطر عليه، و كان ذلك الشي ء في حوزته، كان هو صاحب اليد عليه و

حكم بملكيته له، كما لو كان يضعه في صندوقه المختص به، أو غرفته التي يختص بها، بحيث ليس من شأن أهل البيت التصرف فيه إلا تحت نظره، و بإذنه، و تبعا له.

إذا عرفت هذا فالظاهر لزوم الخروج عن ذلك في الزوجين. لاتفاق النصوص علي عدم الحكم بالمتاع للزوج وحده، و إن كان هو غالبا صاحب اليد علي البيت و ما فيه عموما.

نعم اختلفت فيما بينها علي طائفتين:

الأولي: ما تضمن الحكم ظاهرا بأن المتاع للزوجة إلا ما كان من المتاع مختصا بالرجل، كالسلاح و الكتب و ثياب الرجال. و هو صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألني هل يقضي ابن أبي ليلي بالقضاء ثم يرجع عنه؟ فقلت له: بلغني أنه قضي في متاع الرجل و المرأة إذا مات أحدهما، فادعاه ورثة الحي و ورثة الميت، أو طلقها فادعاه الرجل و ادعته المرأة، بأربع قضايا. فقال: و ما ذاك؟ قلت: أما أو لهن فقضي فيه بقول إبراهيم النخعي: كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، و متاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، و ما كان للرجال و النساء بينهما

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 232

نصفين، ثم بلغني أنه قال: إنهما مدعيان جميعا، فالذي بأيديهما جميعا يدعيان جميعا، بينهما نصفان.

ثم قال: الرجل صاحب البيت، و المرأة الداخلة عليه، و هي المدعية، فالمتاع كله للرجل، إلا متاع النساء الذي لا يكون للرجال، فهو للمرأة.

ثم قضي بقضاء بعد ذلك لو لا أني شهدته لم أروه عنه. ماتت امرأة منا و لها زوج و تركت متاعا، فرفعته إليه، فقال: اكتبوا المتاع، فلما قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال و المرأة، فقد جعلناه للمرأة،

إلا الميزان، فإنه من متاع الرجل، فهو لك.

فقال عليه السّلام لي: فعلي أي شي ء هو اليوم؟ فقلت: رجع إلي أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرجل.

ثم سألته عن ذلك، فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: القول الذي أخبرتني أنك شهدته و إن كان قد رجع عنه. فقلت: يكون المتاع للمرأة؟

فقال: أ رأيت إن أقامت بينة إلي كم تحتاج؟ فقلت: شاهدين. فقال: لو سألت من بين لا بيتها- يعني: الجبلين، و نحن يومئذ بمكة- لأخبروك أن الجهاز و المتاع يهدي علانية من بيت المرأة إلي بيت زوجها. فهي التي جاءت به، و هذا المدعي، فإن زعم أنه أحدث فيه شيئا فليأت عليه البينة» «1».

و قد روي هذا الحديث بألسنة متقاربة بطرق متعددة معتبرة، و في بعضها روايته عن إسحاق بن عمار و عبد الرحمن بن الحجاج جميعا عنه عليه السّلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 233

و ذيله و إن تضمن إطلاق الحكم بأن المتاع للمرأة، إلا أن ما ذكره من تصحيح قضاء ابن أبي ليلي الرابع ملزم بحمل الحكم فيه بأن المتاع للمرأة علي غير ما يختص بالرجل، فيناسب موثق سماعة: «سألته عن رجل [الرجل. يب] يموت ماله من متاع البيت؟ قال: السيف و السلاح و الرجل و ثياب جلده» «1».

الثانية: ما تضمن الحكم ظاهرا بأن المتاع المختص بالرجل للرجل و المختص بالمرأة للمرأة، و المشترك بينهما يقسم بينهما، و هو صحيح يونس ابن يعقوب عنه عليه السّلام: «في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة. قال:

ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء

فهو بينهما، و من استولي علي شي ء منه فهو له» 2.

و خبر رفاعة النخاس عنه عليه السّلام: «قال: إذا طلق الرجل امرأته و في بيتها متاع، فادعت أن المتاع لها، و ادعي الرجل أن المتاع له، كان له ما للرجال، و لها ما للنساء، و ما يكون للرجال و النساء قسم بينهما» 3.

كذا في التهذيب 4، و في الاستبصار: «قال: إذا طلق الرجل امرأته و في بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء قسم بينهما.

قال: و إذا طلق الرجل المرأة، فادعت أن المتاع لها، و ادعي الرجل أن المتاع

______________________________

(1) 1، 2 وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 2، 3.

(2) 3 وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 4، مع اختلاف عما أثبتناه في المتن عن المصادر.

(3) 4 التهذيب ج: 6 ص: 294.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 234

له، كان له ما للرجال و لها ما للنساء» «1».

و ما في المسالك و الجواهر و غيرهما من التعبير عن الرواية بالصحيحة، غير ظاهر الوجه بعد اشتمال سندها في التهذيبين علي الحسن بن مسكين الذي هو مهمل في كتب الرجال، إلا ما ذكره بعض مشايخنا قدّس سرّه في معجمه من وقوعه في سند هذا الحديث في التهذيبين.

نعم روي الصدوق الحديث المذكور في الفقيه بسند صحيح، إلا أن فيه: «قال: إذا طلق الرجل امرأته فادعت أن المتاع لها و ادعي أن المتاع له كان له ما للرجال و لها ما للنساء» «2». و هو لا ينهض بتمام ما تضمنته هذه الطائفة.

و هذه النصوص- كما تري- قد اتفقت علي أن ما يختص بالرجال للزوج، و ما

يختص بالنساء للزوجة. فلا بد من العمل علي ذلك- و إن خالف فيه في المبسوط و غيره، كما يأتي- و إنما اختلفت في المشترك بين الرجال و النساء، فالأولي قد تضمنت الحكم به للزوجة، و الثانية قد تضمن الحكم بأنه بينهما. فلا بد من النظر في ذلك.

و قد جمع بعض مشايخنا قدّس سرّه بين الطائفتين بحمل الأولي علي ما إذا علم أو قامت البينة بأن المرأة جاءت بها، فلا يقبل من الزوج دعوي الزيادة إلا بالبينة، و الثانية علي ما إذا لم يعلم ذلك. و كأن مراده بما إذا علم بأن المرأة جاءت بها ما إذا علم بأنها جاءت بمتاع لها عند ما أهديت للزوج، كما تضمنه صحيح ابن الحجاج، لتتجه دعوي الزيادة من الزوج، أما لو

______________________________

(1) الاستبصار ج: 3 ص: 4.

(2) الفقيه ج: 3 ص: 65.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 235

أراد العلم بأنها جاءت بالمتاع المتنازع عليه، فلا معني لدعوي الزيادة من الزوج، بل لا بد من دعواه هبة المتاع الذي جاءت به له. علي أنه لا يناسب صحيح ابن الحجاج، الذي احتج به في المقام.

و كيف كان فالجمع المذكور ليس عرفيا، بل تبرعيا خاليا عن الشاهد، فإن صحيح ابن الحجاج لم يتضمن اعتبار العلم بذلك شرطا في موضوع حكمه، بل توجيه الحكم الذي تضمنه بتعارف إهداء المتاع من بيت الزوجة إلي بيت زوجها، و جعل التعارف المذكور حجة علي إتيانها بالمتاع، و بضميمة أصالة عدم الزيادة من قبل الزوج، يتعين البناء علي أن المتاع كله للمرأة، فيعارض إطلاقه إطلاق الطائفة الثانية الحاكمة بقسمة المتاع بينهما.

و لا مجال للجمع المذكور بين الإطلاقين من دون شاهد. و لا سيما مع صعوبة حمل إطلاق الطائفة

الثانية علي خصوص صورة عدم العلم بإتيان المرأة، بشي ء معها بعد شيوع ذلك و تعارفه، كما لعله ظاهر.

و بعبارة أخري: لما كانت الطائفتان قد وردتا عن إمام واحد في عصر واحد، فهما واردتان في مورد تعارف واحد و عادة واحدة، فيكون موردهما واحدا و يتعذر الجمع العرفي بينهما، و يتعين استحكام تعارضهما، كما لعله ظاهر أكثر الأصحاب في المقام.

هذا و قد ذهب في الخلاف و ظاهر النهاية إلي القول بما تضمنته الطائفة الثانية، و به صرح في السرائر و النافع و الدروس، و قد يظهر من الوسيلة، و حكي عن الإسكافي و الكيدري و العلامة في التحرير و غيرهم،

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 236

و في الشرائع أنه الأظهر بين الأصحاب، و في المسالك نسبته للأكثر، و في الخلاف و السرائر دعوي الإجماع عليه.

لكن صرح في المبسوط و القواعد بقسمته بينهما مطلقا حتي ما يختص بكل منهما، و هو المحكي عن التنقيح و الفخر في شرحه علي القواعد.

كما أنه يظهر من اقتصار الكليني علي رواية ابن الحجاج من الطائفة الأولي ترجيحه لها و عمله عليها، و يظهر الميل إليه، بل القول به، من الصدوق، و كذا من الشيخ في الاستبصار، حيث حمل خبر رفاعة علي التقية، بدعوي أن ما تضمنه صحيح ابن الحجاج لا قائل به من العامة، أو علي الصلح و الوساطة بينهما دون مرّ الحكم. و من ثم نسب القول المذكور له في السرائر و كشف اللثام.

لكن حمل خبر رفاعة علي الصلح خال عن الشاهد، بل هو مخالف لظاهره جدا. و حمله علي التقية غير ظاهر الوجه بعد اشتراك الطائفتين في عدم نقل مضمونهما في كتاب الخلاف عن العامة، و بعد تضمن رواية

ابن الحجاج نقل مضمونيهما معا عنهم.

و مجرد عدول ابن أبي ليلي عن القضاء الرابع منه لا ينافي كونه من أقوالهم. و لا سيما مع ما حكاه ابن حزم في المحلي عن الزهري و أبي قلابة من أن متاع البيت للمرأة إلا ما عرف للرجل، و عن سليمان التيمي عن الحسن البصري، قال: إذا مات الزوج فللمرأة ما أغلق عليه بابها، و عن يونس ابن عبيد عن الحسن أيضا أنه قال: ليس للرجل إلا سلاحه و ثياب جلده.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 237

نعم، في مبسوط السرخسي: «و علي قول الحسن البصري إن كان البيت بيت المرأة فالمتاع كله لها إلا ما علي الزوج من ثياب بدنه، و إن كان البيت بيت الزوج فالمتاع كله له، لأن يد صاحب البيت علي ما في البيت أقوي و أظهر من يد غيره، و لأن المرأة ساكنة البيت». لكن لا يظهر منه أن ذلك قول الحسن البصري الذي صرح به، بل القول الذي يتخرج علي مبانيه، فلا يرفع به اليد عن ما سبق عنه من ابن حزم. و لو فرض اختلاف النقل عن الحسن كفي ذهاب الزهري و أبي قلابة لهذا القول في كونه من أقوال العامة.

و من ثم لا مجال لما سبق من الاستبصار من الميل لترجيح الطائفة الأولي و حمل الطائفة الثانية علي التقية.

و مثله ما ذكره في الشرائع من أن الطائفة الثانية هي الأشهر في الروايات. حيث لا مجال لذلك بعد أن كان كل طائفة منهما روايتين، و كانت الرواية الأولي من الطائفة الأولي مروية بطرق متعددة. حيث يناسب ذلك كون الطائفة الأولي هي الأشهر.

غاية الأمر أن الشهرة بهذا المقدار لا تصلح للترجيح، لأن المرجح هو

شهرة إحدي الروايتين بحيث تكون الأخري شاذة نادرة، و هي غير حاصلة في المقام.

و كذا ما في الخلاف من توجيه العمل علي طبق الطائفة الثانية بأنه أحوط.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 238

إذ فيه- مع أن الاحتياط ليس من المرجحات-: أنه لا مجال و لا موضوع للاحتياط في باب النزاع و التداعي.

و أشكل من ذلك ما في المبسوط من توجيه ما سبق منه بأنه هو الأحوط.

إذ فيه- مع ما ذكرنا، من أنه لا مجال للاحتياط في باب النزاع و التداعي-: أن الاحتياط ليس من الأدلة، فضلا عن أن يخرج به مقتضي الأدلة و النصوص المعتبرة.

و مثله الاستدلال له بأنه مقتضي عموم حجية اليد بعد اشتراكهما في اليد علي متاع البيت كله. لظهور اندفاعه مما سبق..

أولا: بأن اليد للزوج غالبا، و المرأة تابعة له في البيت، فلا تشاركه في اليد علي ما فيه.

و ثانيا: لوجوب الخروج عن العموم بالنصوص المعتبرة، خصوصا في ما اتفقت فيه، و هو المتاع المختص بأحد الصنفين. و من ثم كان هذا القول في غاية الضعف.

كما أن الظاهر عدم المرجح لإحدي الطائفتين من النصوص علي الأخري. و المتعين تساقطهما، و الرجوع للقاعدة التي سبق التعرض لها، و هي الحكم بأن المتاع للزوج، لو لا الاطمئنان بمطابقة إحداهما للواقع.

بل لا يبعد البناء علي حجية أحدهما إجمالا، إذ بعد الاطمئنان بصدور كل منهما فمن القريب جدا كون منشأ الاختلاف بينهما التقية، و حينئذ يتعين الاقتصار في الخروج عن أصالة الجهة علي إحداهما مع البناء عليها

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 239

في الأخري إجمالا، الراجع لحجية إحداهما إجمالا بنحو يمنع من الرجوع لمقتضي القاعدة المتقدم. و ذلك راجع للعمل علي طبق الطائفة الثانية، لأنه المتيقن

من الخروج عن مقتضي القاعدة المذكورة.

و بعبارة أخري: سبق أن مقتضي القاعدة حجية يد الزوج علي ملكيته لتمام المتاع، إلا أن ذلك تأباه الطائفتان معا، و حيث قد اختلفتا- فالأولي تقتضي سقوط يده رأسا، و عدم حجيتها علي ملكية شي ء منه، و الثانية تقتضي سقوط يده عن الحجية في نصفه مع حجيتها في النصف الآخر- و المفروض حجية إحداهما إجمالا، تعين البناء عملا علي مقتضي الثانية، فيحكم بعدم حجيتها في نصفه و الحكم به للزوجة، لأنه المتيقن المتفق عليه بين الطائفتين، مع حجيتها في النصف الثاني، عملا فيه بالقاعدة المتقدمة، بعد عدم اليقين بالخروج عنها فيه، بسبب اختلاف الطائفتين.

و بذلك يكون المتحصل في المقام هو الحكم بأن ما يختص بالرجال للزوج، و ما يختص بالنساء للزوجة، لأنه المتفق عليه بين جميع النصوص.

أما ما يشترك بين الصنفين فهو بين الزوجين. كما سبق.

بقي في المقام أمور..

الأول: قال في محكي المختلف: «و المعتمد أن نقول: إنه إن كان هناك قضاء عرفي يرجع إليه و يحكم به بعد اليمين، و إلا كان الحكم فيه كما في غيره من الدعاوي … لنا: أن عادة الشرع في باب الدعاوي بعد الاعتبار و النظر راجعة إلي ما ذكرنا، و لهذا حكم بقول المنكر مع اليمين بناء علي الأصل،

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 240

و بأن المتشبث أولي من الخارج، لقضاء العادة بملكية ما في يد الإنسان غالبا، و حكم بإيجاب البينة علي من يدعي خلاف الظاهر و الرجوع إلي من يدعي الظاهر.

و أما مع انتفاء العرف فلتصادم الدعويين، مع عدم الترجيح لأحدهما، فتساويا فيها … و اعلم أن ما رواه الشيخ من الأحاديث يعطي ما فصلناه نحن أولا. و يدل عليه حكمه

عليه السّلام بأن العادة قاضية بأن المرأة تأتي بالجهاز من بيتها، فحكم لها به، و أن العادة قاضية بأن ما يصلح للرجال خاصة فإنه يكون من مقتنياته [مقتضياته خ. ل] دون مقتنيات المرأة، و كذا ما يصلح للمرأة يكون من مقتنياتها دون مقتنيات الرجل، و المشترك يكون للمرأة، قضاء لحق العادة الشائعة. و لو فرض خلاف هذه العادة في وقت من الأوقات أو صقع من الاصقاع لم يحكم لها».

و هو راجع إلي قول رابع غير ما سبق من الأصحاب، و قد تبعه غير واحد من من تأخر عنه. بل ربما حاول بعضهم تنزيل كلام المشهور عليه.

و إن كان ذلك بعيدا جدا، كما في الجواهر.

و كيف كان فيشكل..

أولا: بأن مراده من الرجوع للقضاء العرفي إن كان هو لزوم العمل علي ما يري العرف حجيته و لزوم العمل عليه كاليد- كما قد يظهر من أول كلامه- فهو و إن كان في محله، إلا أن اللازم تقييده بما إذا أحرز حجيته شرعا تبعا للعرف. مع أن المناسب حينئذ تعيين تلك الحجج، لأنه مورد

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 241

الحاجة في المقام.

مضافا إلي أنه لا يناسب ما ذكره في آخر كلامه في بيان صغريات ذلك من قضاء العادة بأن ما يختص بالرجال للزوج، و ما يختص بالنساء للزوجة، و ما يشترك بينهما للزوجة أيضا، لتعارف إتيانها بالمتاع. فإن هذه الأمور- لو تمت- لا تزيد علي كونها ظنونا لا يري العرف حجيتها في أنفسها.

و إن كان مراده من الرجوع للقضاء العرفي العمل علي ظاهر الحال الناشئ من العادة و التعارف الخارجي، الذي هو أمر قابل للإدراك عرفا، من دون ضابط له، فلا مجال للبناء عليه، لأنه لا يزيد علي العمل

بالظن من دون حجة.

و أما ما قيل من أن المنكر هو الذي يطابق قوله الظاهر، فلا بد من تنزيل الظاهر فيه علي الحجة و إن لم تطابق مقتضي العادة و الظن، كالأصل.

و إلا كان ممنوعا.

أما ما استشهد به للحكم المذكور من الشواهد، فهو لا ينهض بالاستدلال علي ذلك، لأن بعض تلك الأمور هو الأصل الذي لا يستند للظاهر. مضافا إلي ثبوت الحجية في الموارد المذكورة بأدلة خاصة لا مجال للتعدي عنها لكل ما يطابق العادة و الظاهر.

و ثانيا: بأن ما ذكره من تنزيل النصوص الواردة في المقام علي الضابط الذي ذكره في غاية الإشكال، بل المنع، فإن ما تضمنه صحيح ابن الحجاج من الطائفة الأولي ليس هو جريان العادة بملكية الزوجة للمتاع المتنازع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 242

فيه إذا لم يختص بأحدهما، بل جريان العادة بإتيان الزوجة المتاع عند زفافها لبيت الزوج، و هو لا يقتضي ملكيتها للمتاع المتنازع فيه إلا بضميمة إهمال احتمال إتيان الزوج بشي ء من المتاع، و هو أمر لا يستند للعادة و الظاهر، بل و لا للأصل، بناء علي التحقيق من عدم حجية الأصل المثبت، و إنما هو أمر تعبدي محض دلّ عليه الصحيح.

علي أن الطائفة الأولي- و منها الصحيح- معارضة بالطائفة الثانية، و لا مجال لحمل الطائفة الثانية علي صورة عدم ثبوت العادة المذكورة بعد صدور الطائفتين في عصر واحد و عن إمام واحد، كما سبق في دفع ما ذكره بعض مشايخنا قدّس سرّه من الجمع العرفي بين الطائفتين.

الثاني: لما كان الحكم بملكية الزوجة للمتاع الصالح للرجل و المرأة في صحيح ابن الحجاج مبنيا علي قيام العادة بإتيان المرأة بالمتاع لبيتها عند زفافها، فهو قاصر عن صورة اضمحلال العادة

المذكورة، و تبدل العرف في ذلك.

و كذا مع بقاء تلك العادة مع العلم بعدم جريان المرأة الخاصة- التي هي طرف النزاع- عليها، و أنها لم تأت بمتاع معها عند الزفاف، لكن ادعت حصولها علي المتاع بعده.

و كذا مع جريان المرأة علي تلك العادة، إلا أن النزاع وقع في متاع خاص يعلم بعدم إتيانها به حين زفافها، بل ادعت أنها قد حصلت عليه بعده. فإن التعليل في صحيح ابن الحجاج موجب لقصوره عن الصور

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 243

الثلاث. و حينئذ يتعين الرجوع فيه للقاعدة المقتضية للحكم بملكية الزوج للمتاع المتنازع فيه، كما تقدم في أول الكلام في المسألة.

إن قلت: صحيح ابن الحجاج و إن كان قاصرا عن مورد الكلام إلا أن إطلاق بقية النصوص شامل له حتي موثق سماعة المتفق مع صحيح ابن الحجاج في الحكم بأن المتاع للزوجة، و لا أثر مع ذلك لقصور صحيح ابن الحجاج عنه.

قلت: أما موثق سماعة فالظاهر تحكيم التعليل في صحيح ابن الحجاج عليه، لظهور الصحيح في أن منشأ الحكم بأن المتاع للزوجة هو العادة المذكورة، و ذلك لا يقتضي مجرد قصور إطلاقه، كي لا ينافي تمامية إطلاق غيره، بل تقييد إطلاقه، لاستلزام قصور العلة قصور الحكم المعلل بها، و هو مستلزم لتقييد إطلاق الموثق بعد وحدة الحكم فيهما.

و أما نصوص الطائفة الثانية فهي و إن كانت مطلقة، و لا ينهض التعليل بتقييدها، لاختلاف الحكم فيهما، إلا أنه سبق سقوطها عن الحجية في مؤداها بمعارضته للطائفة الأولي، و أن الحكم بما يطابقها ليس لحجيتها في مؤداها، بل لأنه المتيقن من الطائفتين، و بعد سقوطها عن الحجية لا مجال للعمل بها في الموارد المذكور الذي تقصر عنه نصوص الطائفة

الأولي.

إن قلت: لما كان منشأ سقوطها عن الحجية هو المعارضة بالطائفة الأولي، فالمتعين بقاؤها علي الحجية في محل الكلام، لعدم المعارض لها فيه بعد فرض انفرادها به، و قصور الطائفة الأولي عنه.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 244

قلت: بعد سقوط الطائفة الثانية بالمعارضة للطائفة الأولي لا مجال لحجيتها في الصور الثلاث المذكورة و إن لم تكن موردا لمعارضة بينهما، لأن التعارض المستحكم يمنع من حجية كل من المتعارضين رأسا، و لا سيما بناء علي ما سبق من قرب حمل إحدي الطائفتين إجمالا علي التقية، إذ مع كون احتمال التقية في الطائفة الثانية بحدّ يوجب سقوط أصالة الجهة فيها يتعين عدم حجيتها مطلقا حتي في غير مورد المعارضة.

و إنما يكون الدليلان المتعارضان حجة في غير مورد المعارضة فيما إذا أمكن الجمع العرفي بينهما، إلا أنه تردد بين وجهين، كما في العامين من وجه، حيث يجري عليهما حكم المجمل في مورد المعارضة، مع بقائهما علي الحجية في غير موردها، دون مثل المقام من ما يتعذر فيه الجمع العرفي.

نعم لو أمكن الجمع العرفي في المقام بين الطائفتين بحمل الأولي علي صورة تنازع الزوجين في المتاع الذي جاءت به الزوجة حين زفافها مع تعارف إتيان الزوجة بالمتاع معها، الذي عرفت أنه المناسب للتعليل في صحيح ابن الحجاج، و حمل الثانية علي ما عدا ذلك، كالصور التي هي محل الكلام، اتجه حجيتها في الصور المذكورة.

لكن من الظاهر امتناع الجمع المذكور، لأن التنازع في المتاع الذي تأتي به الزوجة معها هو الشائع من صور التنازع بين الزوجين في متاع البيت، فيتعذر حمل إطلاق الطائفة الثانية علي ما عداه، و يتعين استحكام التعارض بينهما، و سقوط الطائفة الثانية عن الحجية حتي في

الصور التي هي محل

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 245

الكلام، و الرجوع في الصورة المذكورة للقاعدة المقتضية للحكم بأن المتاع للزوج، كما ذكرنا.

الثالث: سبق قوله عليه السّلام في صحيح يونس بن يعقوب: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما. و من استولي علي شي ء منه فهو له» و ظاهر الفقرة الأخيرة الإشارة إلي ما سبق منا في ذيل الكلام في مقتضي القاعدة من أنه إذا اختص أحد أفراد العائلة بشي ء، و كان هو المسيطر عليه، بحيث يكون تحت يده، حكم له به، ففي المقام إذا اختص أحد الزوجين بالاستيلاء علي شي ء حكم له به.

و أما ما ذكر في الجواهر من أن الفقرة المذكورة كالاستدلال علي ما سبقها فالمراد بها أنه إنما حكم بأن متاع النساء للمرأة و المتاع المشترك بين الرجال و النساء لهما معا يقسم بينهما لتحقق اليد و الاستيلاء بالاستعمال، فتختص المرأة بالاستيلاء علي متاع النساء، و يشتركان في الاستيلاء علي المتاع المشترك بين الرجال و النساء.

فهو مخالف لظاهر الحديث جدا، بل الظاهر كون الفقرة المذكورة مستأنفة، لبيان كبري مباينة لما سبقها استثناء منه.

نعم قد يقال: إن ظاهر الفقرة المذكورة اختصاص الاستثناء المذكور بالمتاع المشترك بينهما، دون المختص بأحدهما، كما هو مقتضي إفراد الضمير في قوله عليه السّلام: «شي ء منه» بضميمة أصالة رجوع الضمير للمتأخر.

و حينئذ يكون مقتضي إطلاق قوله عليه السّلام في صدره: «ما كان من متاع

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 246

النساء فهو للمرأة» الحكم بالمتاع المختص لأحدهما حتي لو أختص الآخر باليد و السيطرة عليه، فيخرج بذلك عن ما سبق من القاعدة، لأنه أخص منها.

لكنه يشكل..

أولا: بقرب رجوع الضمير في

قوله عليه السّلام: «شي ء منه» لمتاع البيت المتنازع فيه، فإنه و إن لم يصرح به في ما سبق، إلا أنه مستفاد من مساق الكلام، و الاحتمال المذكور يمنع من انعقاد إطلاق الصدر في العموم، بسبب احتفافه بما يصلح للقرينية.

و ثانيا: بأن من القريب انصراف الصدر عن صورة اختصاص أحد الزوجين بالسيطرة علي شي ء من المتاع المختص بأحد الصنفين، و اختصاص موضوعه بغير ذلك من ما كان موضوعا في البيت، و في متناول يد كل منهما. و لا سيما مع عدم التصريح في الحديث بموضوع السؤال، و أنه هو مطلق المتاع الموجود في البيت أو خصوص ما كان منه تحت يد الجميع دون ما يختص بالسيطرة عليه بعضهم، إذ يكون المتيقن حينئذ هو الثاني.

و من ثم لا مجال للخروج عن مقتضي القاعدة المتقدمة من تقديم اليد الخاصة، و إنما يجري التفصيل السابق في صورة عدمها.

مسائل معاصرة في فقه القضاء، ص: 247

انتهي الكلام في ذلك ضحي الاثنين غرة شهر رجب الحرام سنة ألف و أربعمائة و عشرين للهجرة النبوية علي صاحبها و آله أفضل الصلاة و التحية. في النجف الأشرف علي مشرفه الصلاة و السلام.

بقلم العبد الفقير محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (عامله اللّه تعالي بلطفه و عفوه). وَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ*. و الصلاة و السلام علي رسوله الأمين، و آله الغر الميامين، و سلم تسليما كثيرا. و منه نستمد العون و التسديد و التوفيق و التأييد. و هو حسبنا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.